مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 83 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 83 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي رحمه الله تعالى، نعيش هذه الدقائق تبركاً بذلك الحبر العظيم والفكر المستقيم الذي تركه لنا
في كتابه الماتع هذا. أقرأ ما قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله. تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين. في كتابه إحياء علوم الدين، ومن ذلك اليقين بأن الله تعالى مطلع عليك في كل حال، ومشاهد لهواجس ضميرك وخفايا خواطرك وفكرك. وهذا متيقن عند كل مؤمن بالمعنى الأول وهو عدم الشك، وأما بالمعنى الثاني وهو المقصود فهو عزيز يختص به الصديقون. وثمرته أن يكون الإنسان في خلوته متأدبًا في جميع أحواله وأعماله كالجالس في مشهد ملك معظم ينظر إليه، فإنه لا يزال مطرقًا متأدبًا في جميع أعماله
متماسكًا محترزًا عن كل حركة تخالف هيئة الأدب، ويكون في فكرته الباطنة كما هو في أعماله الظاهرة إذ يتحقق أن الله تعالى مطلع على سريرته كما. يطلع الخلق على ظاهره فتكون مبالغته في عمارة باطنه وتطهيره وتزيينه لعين الله تعالى الكالئة أشد من مبالغته في تزيين ظاهره لسائر الناس، وهذا المقام في اليقين يورث الحياء والخوف والانكسار والذل والاستكانة والخضوع وجملة من الأخلاق المحمودة، وهذه الأخلاق تورث أنواعاً من الطاعات رفيعة، فاليقين في كل باب. من هذه الأبواب مثل
الشجرة، وهذه الأخلاق في القلب مثل الأغصان المتفرعة منها، وهذه الأعمال والطاعات الصادرة من الأخلاق كالثمار والأنوار المتفرعة من الأغصان. فاليقين هو الأصل والأساس، وله مجارٍ وأبواب أكثر مما عددناه، وسيأتي ذلك في ربع المنجيات. وهذا القدر كافٍ في تفهيم معنى اللفظ الآن. يستمر الإمام الغزالي... في شرح كلمة اليقين ودائرة ما ورد عن رب العالمين عن طريق المرسلين، فتكلم عن التوحيد وتكلم عن الثقة بما في يد الله سبحانه وتعالى من أجل إصلاح المعاش، وتكلم عن استحضار اليوم الآخر لضبط السلوك البشري، ثم تكلم على
قضية الاطلاع والحضور وأن هذا الاطلاع الإيمان بأن الله. مطلع على سري وعلاني، وأنه يعلم من باطني ما يعلمه الناس من ظاهري، والناس لا يعلمون من ظاهري إلا ما صدر فعلاً في الخارج دون معرفة ما في القلب، لكن الله يعلم السر وأخفى من السر. أما من تيقن هذا بعقله فهذا موجود في عموم المسلمين، وأما من أثر هذا. في سلوكه وحدث له استحضار وحال، وهو المعنى الثاني لليقين: السيطرة والعلو والاستحضار، وأن يعيش في هذا المعنى، فهذا يورث حياءً ورهبةً من الله سبحانه وتعالى دائمتين، فيكون قد دخل في الذكر وفي الفكر
بأتم الحال، فهو لا ينسى الله سبحانه وتعالى أصلاً حتى يذكره، وحتى في عبارات الشاطحين من السائرين إلى رب العالمين، حدث هذا: قال: "لا أذكرك، فمتى نسيتك حتى أذكرك؟ فلا أذكرك". فأراد أن يمسكه في هذه النقطة قائلاً: "ها، هذا يقول: لن أذكر ربنا، إذاً سأذكر من؟ الشيطان؟" لكن الحقيقة أنه لم يقصد ذلك، بل كان يقول له: "إنني وصلت من حالة الاستحضار والحضور الدائمين بفضلك يا الله إلى أنني..." يعني أستحي حتى أن أذكرك لأنني في حالة ذكر دائم وحضور دائم وشيء من هذا القبيل. وأهل الشطح عندما تصدر منهم هذه العبارات تُؤوَّل، وكان الأولون قبل الثلاثمائة يقبلون هذه العبارات ويُعلون من شأنها، وعلامة ذلك
الحلاج. فلما أتى الحلاج لم يقبل الناس هذه العبارات ورأوا أن الحلاج قد... تجاوز وأن الناس لا تفهم وأنه لا بد من عقوبته وبدأت إيقاع العقوبة، لكن مثل هذه الألفاظ كانت تَرِدُ على أبي يزيد البسطامي رضي الله تعالى عنه. يا أبا يزيد البسطامي، متى توفي؟ في سنة مئتين وواحد وستين. الفاتحة. ففي سنة مئتين وواحد وستين، بعد خمسين سنة، بدأ الناس يضجّون من هذه العبارات. التي فيها نوع من الشطح، أما قبل ذلك فكان الناس يتكلمون وكان الناس يفهمون، ولذلك لم يؤاخذوا على هذه الشطحات. إنما كان الإمام
الشافعي يسأل شيبان الراعي فيقول له: "كم الذكاة يا شيبان؟"، يريد أن يعرف إذا كان يعلم معالم الشريعة أو أنه قد ذهب إلى الفيافي والصحاري وهكذا يعتزل. دون أن يتعلم الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، عنده مدخل لعبادة الله أصله العلم ولابد منه، وهذا هو كلام جميع أهل التصوف أنه لا بد من الشريعة وإلا انفرط الحال من أولهم إلى آخرهم. طريقنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، ولذلك كان الجنيد إذا ذُكر الحلاج يقول: "لو أدركته لانقضته". كان يمرُّ به بسرعة، يدير وجهه إلى الناحية الأخرى فقط وينتهي الأمر، وكان يتجاوزه بسرعة، أي يضبط كلامه
حسب مقتضى الشرط. فسأله الشيخان: "كم مقدار الزكاة عندنا أو عندكم؟" فقال: "الزكاة عندنا أو عندكم؟" قال: "نعم، أما عندكم فشاة واحدة من كل أربعين". كان لدى الشيخان -وهو راعٍ- بعض الغنم. جالس يشرد بهم أفكاره، عندكم شاة لكل أربعين، أما عندنا فإن الغنم كلها لله. نعم، إنه يتحدث عن ما يُسمى بضلال الكلمة ومردود الكلمة، ويتحدث عن الغاية والغرض، ويتحدث عن قضية خلف قضية التشريع، اثنين ونصف في المائة، واحد على أربعين. نعم، هذا هو التشريع، لكن القلب الحاضر يرى أن... الملك لله وأنه مالك يوم الدين
وأنه له ملك السماوات والأرض وأننا مستخلفون فيه وكل هذا أن تنطقوا به الشريعة لكن على مستوى آخر من مستوى الخطاب وهو مستوى تحول هذه المعاني إلى قضايا فإذا هذا ما أسموه بالشطح أو ما شابه ذلك إلى آخره إنما كان مقبولاً لأنه كان مفهوماً لكنه بعد أن ابتعد الناس وكثرت الفتن ودخلنا في القرن الرابع الهجري، بدأنا نحاسب الناس حساباً آخر بطريقة أخرى أدت إلى مقتل الحلاج - غفر الله له - لأنه صرح بتصريحات لم يفهمها حتى القاضي. القاضي لم يفهم ماذا يقول من نحو
"ما في الجبة إلا الله"، يعني الجبة التي أنا أرتديها أنا. عدم الله هو المتمكن لكن الناس تظن فيها الحلول والاتحاد وهي عقائد باطلة كاسدة فاسدة لا يمكن قبولها أن الله حل فينا ولا غير ذلك إلى آخره. هذا الكلام لا يليق أصلاً، فالرب رب كما قلنا والعبد عبد، وهناك فارق بين المخلوق والخالق. إذاً هذه كلمات موهِمة لكنه كان يقصد. هكذا هو الحال مع الله، يعني من أنا حتى يكون في الجبة الحلاج، وأن في الله وفيه الحلاج. يستحي أن يقول ذلك، فيريد أن يتكلم عن أن الله سبحانه وتعالى هو الموجود على الحقيقة، وأننا إنما نقوم به سبحانه، فهو الذي خلقنا وهو الذي يستطيع في لحظة أن يمنع. الإمداد عندنا فنفنى، ولذلك
فوجودنا قائم به، لكنه هو قائم بذاته، ولذلك فهو قيوم السماوات والأرض. يريد أن يقول شيئًا من هذا لكنه يقوله بطريقة عامية لا يفهمها الناس فيؤاخذونه عليه، ويجلس القاضي يحقق معه. أبدًا يلتف حوله ويداوره هكذا إلا أنه لا يثبت الوجود لنفسه. قالوا له: لا، أنت... فتقول إذاً بالحلول والاتحاد، صحيح. إذاً نقتله. اقتلوه. فقيل إنه لما قُتل رسم دمه على الأرض "لا إله إلا الله". إذاً المرء يحتار الآن. كيف ذلك؟ وهل كان هذا الرجل يقول الصواب أم الخطأ؟ وهل كان القاضي على صواب أم خطأ؟ والقاضي صحيح بسيف الشريعة، أي أن الشريعة ضابطة هكذا، ولكن مع هذا الضبط إلا... إن هذا الرجل له حال
مع الله، فبدأ مع عبد الكريم القشيري، أو في الرسالة، وكذلك يظهرون هذه المعاني أن هناك مصطلحات وأن هناك لغة أخرى قد تكون خاصة بهذه الأحوال. هذه اللغة تجعلك أكثر تفهماً، فسكن القتل يعني السهر، وورد المقتول، وغير ذلك إلى آخره. كل هذا حصل في... فترة ثلاثة قرون تقريبًا ما بين ثلاثمائة إلى ستمائة، وبعد ذلك توقف القتل، ولم يعد هناك أناس يُقتلون من أجل هذه العبارات التي تحولت إلى ما يسمونه في الإنجليزية "Terminology" أي مصطلحات، وأن لها معانٍ أخرى، وهذه المعاني لا بد أن تكون أو أن نفهمها على الوجه الصحيح ونرفضها. على الوجه القبيح فهذا هو ما كان في هذا المقام، ولذلك
ألَّف بعضهم، منهم السيد حسن الملطاوي رحمه الله تعالى، الصوفي في شطحاتهم، يعني في لحظات معينة تخرج شطحة من الشطحات قد يكون ظاهرها مؤلماً، لكنها في حقيقتها تعبر عن حال حقيقي، فلا بد أن نفهمها من خلال هذا. الحالُ ومن هذا المقام فإن محيي الدين بن العربي وحتى يتكلم في ما منَّ الله عليه من فتوحات، كتبَ عقيدته الشرعية التي يُرجَع إليها في بداية الفتوحات المكية وقال: إذا التبسَ عليك أي أمر وظننتَ أيَّ ظن، فارجع إلى هذه العقيدة حتى تكون ضابطاً لك وأنت تسبح في الفتوحات وظننت. أنه يميل إلى شيء من وحدة الوجود أو الاتحاد أو غير ذلك
من العقائد الفاسدة التي رفضها الناس، فإنك ترجع إلى هذه العقيدة هل تقصد هذا؟ فالعقيدة تجيب عليك أن لا أقصد هذا، إذن أنت فهمت خطأً، اذهب وابحث لك عن معنى آخر صحيح تحت هذه العقيدة والضابط. والسقف تكون مناسبة معه بأن هذا التعبير إنما جاء من حال رأى فيها معنى ولم يرد أن يضيعه على المسلمين في التأمل والتدبر والتفكر ونحو ذلك. هذا حالهم معهم رضي الله تعالى عنهم، وهذا من باب إحسان الظن بالمسلمين وبعلماء المسلمين، ومن باب إعظام المنة لله رب العالمين أن وفق. الناس إلى الفهم الدقيق وإلى هذا الحفظ لذلك التراث حتى
تفهم الشريعة بكل عمق، وينفع هذا وأنت تخاطب العالمين بأنواع مختلفة من الخطاب، وتدخل على أناس كانوا يتدينون بكل دين، فتجيب على كل أسئلتهم من هذا التراث العظيم الذي تركه لنا هؤلاء الأولياء رضي الله تعالى عنهم. هناك منهج. آخر الرفض والإقصاء والنبذ لماذا؟ لأنه يفهم من الظاهر شيئاً مثل هذا. هذا منهج سخيف متخلف، والمنهج الصحيح هو أن نفهم كما أراد الله. لهم أن يفتح عليهم. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.