مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 84 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين نستمر في كتاب العلم، وهو الذي وضعه أولاً قبل الدخول في أرباعه الأربعة: العبادات والمعاملات والمنجيات والمهلكات،
أو المهلكات ثم المنجيات. وضعه وقدم له بالعلم، وهذا مدخل يبين لنا أن كتاب... العلم والذي بعد ذلك كما قلنا عُرف عند الغرب بالإبستمولوجيا، ويجعلونه مدخلاً لكل منهج إبستمولوجي، المعرفية، المعرفة، نظرية المعرفة. فهذا أخذوه منا ولا يعترفون، لا بأس، أمرنا إلى الله. اقرأ يا شيخ محمد: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا بعلومه. وعلومكم في الدارين آمين. في كتابه إحياء علوم الدين، ومنها أن يكون حزينًا منكسرًا مطرقًا صامتًا، يظهر أثر الخشية على هيئته وكسوته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته. لا ينظر إليه ناظر إلا وكان نظره مذكرًا لله تعالى، وكانت صورته
دليلًا على عمله، فالجواد راره راره راره مثلثة، وهو مثل يضرب لمن... يدل ظاهره على باطنه، والفرار بتثليث الفاء هو النظر في أسنان الدابة أو في أوصافها لتعرفها، فالجواد عينه فراره. فعلماء الآخرة يُعرفون بسيماهم في السكينة والذلة والتواضع، وقد قيل ما ألبس الله تعالى عبداً لبسة أحسن من خشوع في سكينة، فهي لبسة الأنبياء والصالحين والصديقين والعلماء. أما التهافت في الكلام والتشدق... والاستغراق في الضحك والحدة في الحركة والنطق فكل ذلك من آثار البطر والأمن والغفلة عن عظيم عقاب الله تعالى وشديد سخطه، وهو دأب أبناء الدنيا الغافلين عن الله دون العلماء به. وهذا لأن العلماء ثلاثة
كما قال سهل التستري رحمه الله: عالم بأمر الله لا بأيام الله، وهم المفتون في الحلال والحرام وهذا العلم لا يورث الخشية، وعالم بالله لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم عموم المؤمنين، وعالم بالله وبأيام الله وبأمر الله وهم الصديقون، والخشية والخشوع إنما تغلب عليهم. وأراد بأيام الله أنواع عقوباته الغامضة ونعمه الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة، فمن أحاط علمه بذلك عظُم. خَوْفُهُ وَظَهَرَ خُشُوعُهُ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ وَالْحِلْمَ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ، وَلْيَتَوَاضَعْ لَكُمْ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْكُمْ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ". وَيُقَالُ: "مَا آتَى
اللهُ عَبْدًا عِلْمًا إِلَّا آتَاهُ مَعَهُ حِلْمًا وَتَوَاضُعًا وَحُسْنَ خُلُقٍ وَرِفْقًا، فَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ". النافع وفي الأثر: مَن آتاه الله علماً وزهداً وتواضعاً وحسن خلق فهو إمام المتقين. قال الحافظ الزبيدي في إتحافه: هكذا أورده صاحب القوت وتبعه المصنف، ولم يتعرض له العراقي، ولا وجدته في غير كتاب القوت. وفي الخبر: إن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة الله ويبكون سراً. مِن خوفِ عذابهِ أبدانُهم في الأرضِ وقلوبُهم في السماءِ، أرواحُهم في الدنيا وعقولُهم في الآخرةِ، يتمشَّون بالسكينةِ ويتقرَّبون بالوسيلةِ. رواه الحاكمُ في المُستدرَكِ والبيهقيُّ في الشُّعَبِ. إذ هنا ينقُلُ الإمامُ الغزاليُّ عن قُوتِ القلوبِ لأبي طالبٍ
المكيِّ، وهو من أهمِّ الكُتبِ التي رجعَ إليها الغزاليُّ، فهو مرجعٌ أساسٌ يرجعُ إليه دائماً. وينقل منه دون العزو، بل إنه جعله أمامه وكأنه مصدر أساسي. إن كثيراً من عبارات الغزالي ينقلها من "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، وأبو طالب سابق على الإمام الغزالي، و"قوت القلوب" مطبوع لكنه أصغر كثيراً من "إحياء علوم الدين"، لكن الغزالي كان يعتمده اعتماداً كبيراً وينقل عنه كثيراً جداً. حتى قيل إنه قد استوعب القوت في إحيائه، يعني فضل ينقل منه. لكن في الحقيقة، القوت كله ما بقي داخله بهذه الطريقة؛ أنه يأتي بعبارة، يأتي بسطر، يأتي بفقرة من كتاب القوت. وهنا يبحث عن هذا القول أو هذه
الحكمة الواردة عن السابقين. يبحثون عنها أمثال المرتضى الزبيدي، والمرتضى كان... واسع الاطلاع وكان حافظاً شديد الحفظ فلم يجدها إلا في القوت. إذاً فهؤلاء الناس حفظوا أشياءً قد ضاعت مصادرها، ولذلك جعلوها من باب الآثار والأخبار والنقولات، أي ليس من باب المصادر. ولذلك نتأملها، فإذا كانت تُحسِّن المعنى وتؤدي إلى شيء مطلوب ومرغوب فإننا نأخذها ولا حرج، وإذا لم تكن كذلك. بأنها كانت محل اختلاف وخلاف فإنها ليست بحجة لأنها واردة عن الحكماء أو عن الشعراء أو عن الأدباء أو عن أهل الزمان مثل الأمثال العامية وما إلى ذلك،
فكل هذه فيها حكمة الزمان لا تُرفض ولكنها ليست بحجة. نعم، وقوله هنا "الفرار عين الجواد" - الفرار يعني - حتى نعلم مدى حسن. هذا الجواد فإننا ننظر في عينه، والخبراء يعرفون، يقول لك هذا حصان مخصص للكارو، أي أنه يصلح لجر عربة الكارو لأنه نظر في عينه فوجده مسكيناً وتعباناً وهزيلاً وليس صالحاً لأي شيء، لكن الجواد الذي هو مخصص للسباق أو نحو ذلك فهذا جواد عينه مختلفة. نظرته مختلفة وقد تغيرت، واتجاه نظره مختلف، وفيه أمور كثيرة وكبيرة فيها أشياء عجيبة وغريبة، كيف أنه كإنسان يدافع عن صاحبه، وهو أشد وفاءً حتى من الكلب
الذي هو معروف بالوفاء الشديد لصاحبه ودفاعه عنه، وما إلى ذلك. الحصان لا، الحصان هذا شيء آخر، إنه كأنه يفهمك. إلى أن يصل صاحبه إلى حديثه يكلمه وهو يصعب عليه. لو كنت ستطعمه كل يوم سكراً، ثم أتيت وأطعمته حشيشاً أو شيئاً آخر أو بعض الذرة، سيغضب وربما لا يأكل لأنه غاضب منك. هل أنت تمزح أم ماذا؟ وعندما تسبق وتطعمه شيئاً جميلاً كهذا، يفرح ويهز ذيله هكذا ويصبح شيئاً رائعاً. ثانياً، فسبحان الله، الخير معقود بنواصيها، الخير إلى يوم القيامة. يعني هذه المعاني لم تذهب، وإنما التبست على الناس. وكان المصريون من الأغنياء يحبون الخيل، ومزارع الخيل ما زالت موجودة حتى الآن، لأن الإنسان الذي ابتلي بحب الخيل
لا يسلاها، أي ليس من الممكن أبداً. وحدثت أشياء. كثيرة في هذا المجال وكان هناك أناس يعشقون كتب الخيل وما كُتِب فيها من أنساب وأوضاع وما إلى ذلك، وكنا عندما نتدرب على الخيل، كان عم إبراهيم يقول لنا، وهو رجل عامي ربما كان لا يعرف القراءة والكتابة، يقول: "إذا ركبت الحصان فلْيستقم ظهرك هكذا، فإن كل..." مائلٌ إلى السقوط. ما الذي جعل عم إبراهيم يعرف أن كل مائل إلى السقوط؟ لقد سمعها من الرجل الذي كان يُدرِّبه أو الرجل الذي أخذ عنه المعرفة أو ما شابه ذلك. لكنها حكمة تقول إن الحصان إذا بدأ وأنت تتدرب عليه في البداية ومال واضطرب، فإنه سيسقط، وستقع بعد ذلك. هكذا أصبحت تلعب عليه بمهارة، هذا شيء آخر يشبه
تقنية السير، انتهى الأمر، صرت أنت هو وهو أنت، أصبحت شيئاً واحداً. وكان ممن عرفناه من محبي الخيل أحمد باشا حمزة، وأحمد باشا حمزة في يوم من الأيام ضاقت به الحال بعد حركة التأميم التي قام بها عبد الناصر، فكان ينفق عندما... يذهب للعمرة وينفق أربعة عشر ألف جنيه ذهبًا على أهل المدينة ومكة، فلما نفد ماله وصودرت أرضه ومصانعه وأصبحت أحواله ضيقة، وكان عنده كثير من الناس، قالوا له: "أحمد باشا، اصرفهم وأخرجهم". فقال: "لا أفعل ذلك حتى أصبح أنا وهم على حد سواء". والله، هذا يُعد من كبار أولياء الله. الصالحين الذين نحن جالسون نقرأ عنهم هنا، ففي يوم من الأيام اضطر من أجل المال أن يبيع فرساً، فلما باع الفرس باعه الناس هنا إخواننا في باب الشعرية، أخذوه وردوا عليه بعد يومين أو
ثلاثة وقالوا له: "هذا الفرس غريب جداً، إنه لا يأكل وسيموت". قال لهم: "الله! ماذا فعلتم به؟" ماذا قال لهم؟ "لم نفعل شيئاً ولله هذا، إنما نحن فقط..." قالوا: "مهلاً مهلاً، ماذا فعلت به؟ اشرحوا لي ما حدث". قالوا: "لا شيء، أخذناه ثم وضعنا السيارة الكارو عليه". فقال لهم: "وضعتم سيارة الكارو على هذا؟ هذا ابن أناس محترمين". فحزن الحصان جداً، فاسترده أحمد باشا ورد لهم أمواله. هذا يعطي معنى الوفاء ولم نرَ الوفاء باقياً. الناس سُلِبَ منها الوفاء، وعندما دخل الفرس تنهنهَ فأخذه في حضنه. إذا كان هذا يفعل هكذا مع الحيوان فما بالك بالإنسان. وكل هذه المعاني ذابت وضاعت واختفت، وأصبحنا لا نعرف إلا الكم والعدد والرقم، ولذلك ما نحن فيه من جو عام
هو... جوٌ مقيتٌ وليس هو جو الخلق الكريم. إلى أستودعكم الله.