مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 86 | أ.د علي جمعة

مجالس إحياء علوم الدين | مسجد فاضل | المجلس 86 | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب إحياء علوم الدين لإمام الأئمة وبدر التتمة سيدنا الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، نعيش هذه اللحظات ومازلنا في كتاب
العلم الذي صدَّر به كتابه. اقرأ يا شيخ محمد، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا الله بعلومه وعلومكم في الدارين آمين في كتابه إحياء علوم الدين. وقال علي أيضا رضي الله عنه: "إذا سمعتم العلم فاكظموا عليه، إذا سمعتم العلم فاكظموا". عليه ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب، وقال بعض السلف: العالم إذا ضحك ضحكًا مج العلم، مج من العلم مجة. وقيل: إذا جمع المعلم ثلاثًا
تمت النعمة به على المتعلم: الصبر، والتواضع، وحسن الخلق. وإذا جمع المتعلم ثلاثًا تمت النعمة به على المعلم: العقل، والأدب، وحسن الفهم. وعلى الجملة فالأخلاق. التي ورد بها القرآن لا ينفك عنها علماء الآخرة لأنهم يتعلمون القرآن للعمل لا للرئاسة، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ولقد رأيت رجالاً يُؤتى
أحدهم..." القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما أوامره وما نواهيه وما ينبغي أن يقف عنده، ينثره نثر الدقل. وفي خبر آخر بمعناه: كنا نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُوتينا الإيمان قبل القرآن، وسيأتي بعدكم قوم يُؤتون القرآن قبل الإيمان، يقيمون حروفه ويضيعون. حدوده يقولون قرأنا فمن أقرأ منا وعلمنا فمن أعلم منا فذلك حظهم، وفي لفظ آخر: أولئك شرار هذه الأمة. وقيل: خمس من الأخلاق هي من علامات علماء
الآخرة، مفهومة من خمس آيات من كتاب الله عز وجل: الخشية، والخشوع، والتواضع، وحسن الخلق، وإيثار الآخرة على الدنيا وهو الزهد. أما الخشية فمن قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ وأما الخشوع فمن قوله تعالى: ﴿خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وأما التواضع فمن قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأما حسن الخلق فمن قوله تعالى: ﴿فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ وأما الزهد فمن قوله تعالى: وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً، ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام"، فقيل له: ما هذا الشرح؟ فقال: إن النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح. قيل: فهل لذلك من علامة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود،
والاستعداد للموت قبل نزوله" وهو الحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب. فهذا كان حالهم أنهم يتأملون القرآن ويتدبرونه، ثم يستنبطون منه أركان المسألة التي يبحثونها، كما استنبط هذا المخمس من الخشوع والخشية والزهد. والتواضع والتدبر إلى آخر ما يقرأ القرآن ثم يأخذ منه هذه العناصر باعتبار أن القرآن كان أحد المصدرين، إما أن يأتي من الواقع والكون وإما أن يأتي من الوحي. نعم، ومنها أن يكون أكثر بحثه عن علم الأعمال وعما
يفسدها ويشوش القلوب ويهيج الوسواس ويثير الشر، فإن أصل الدين التوقي. مِنَ الشَّرِّ، ولِذَلِكَ قِيلَ: "عَرَفْتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرِّ، لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ". وَمَنْ لا يَعْرِفُ الشَّرَّ مِنَ الخَيْرِ، وَمَنْ لا يَعْرِفُ الشَّرَّ مِنَ النَّاسِ يَقَعُ فِيهِ. وَلِأَنَّ الأَعْمَالَ الفِعْلِيَّةَ قَرِيبَةٌ، وَأَقْصَاهَا بَلْ أَعْلاهَا المُوَاظَبَةُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يُفْسِدُهَا وَيُشَوِّشُهَا، وَهَذَا مِمَّا تَكْثُرُ شُعَبُهُ وَيَطُولُ. تفريعه وكل ذلك مما تغلب الحاجة الماسة إليه وتعم به البلوى في سلوك طريق الآخرة،
ومنه قول عمر: "لست بالخب ولكن الخب لا يخدعني"، يعني لست خبيثًا ماكرًا، إنما كانت عنده قوة وشفافية، ولكن هذا الخبيث الماكر لا يستطيع أن يخدعه لأنه واعٍ بالشر حتى يجتنبه وحتى لا يقع فيه. ومنه قولهم تعلم السحر ولا تعمل به، فالعلم بالشيء خير من الجهل به، فالاطلاع على الشر إنما يكون من أجل توقيه ومن أجل عدم الوقوع فيه. نعم، وأما علماء الدنيا فإنهم يتبعون غرائب التفريعات في الحكومات والأقضية، ويتعبون في وضع صور تنقضي الدهور ولا تقع أبدا، وإن وقعت فإنها وإن وقعت. فإنما تقع لغيرهم لا لهم، وإذا
وقعت كان في الخائضين بها كثرة، ويتركون ما يلازمهم ويتكرر عليهم آناء الليل وأطراف النهار في خواطرهم ووساوسهم وأعمالهم. وما أبعد عن السعادة من باع مهمَّ نفسه اللازمة بمهمِّ غيره النادر، إيثاراً للقبول والتقرب من الخلق على القرب من الله تعالى وشرفه في أن. يسميه البطالون من أبناء الدنيا فاضلاً محققاً عالماً بالدقائق، وجزاؤه من الله ألا ينتفع في الدنيا بقبول الخلق، بل يتكدر عليه صفوه بنوائب الزمان، ثم يَرِدُ القيامة مفلساً متحسراً على ما يشاهده من ربح العاملين وفوز
المقربين، وذلك هو الخسران المبين. ولذلك اسمه الذكرى بالباقيات الصالحات، وكان الجناد عندما انتقل. رؤيا فقيل له ماذا فعل علمك؟ قال: ذهبت العبارات وطاشت الإشارات وبقيت ركيعات كنا نصليها في الليل. يعني كل هذه القضية ذهبت ولم يتبق إلا ذكر الله وعبادة الله. نعم، ولقد كان الحسن البصري رحمه الله أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأقربهم هدياً من الصحابة رضي الله عنهم. الله عنهم اتفقت الكلمة في حقه على ذلك وكان أكثر كلامه في
خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساوس النفس ووساوس النفوس والصفات الخفية الغامضة من شهوات النفس وقد قيل له يا أبا سعيد إنك تتكلم بكلام لا يُسمع من غيرك فمن أين أخذته قال من حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وقيل لحذيفة: نراك تتكلم بكلام لا يُسمع من غيرك من الصحابة، فمن أين أخذته؟ قال: خصّني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كان الناس يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، وعلمت أن الخير لا يسبقني. وقال مرةً: فعلمت أن من لا يعرف الشر.
لا يعرف الخير، فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير. وفي لفظ آخر: كان الناس يقولون: "يا رسول الله، ما لمن عمل كذا وكذا؟" يسألونه عن فضائل الأعمال، وكنت أقول: "يا رسول الله، ما يفسد كذا وكذا؟" فلما رآني أسأله عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم، وكان موضع... سرُّ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم حتى أنه أخبرهُ بالفتنِ ما سيكونُ منها إلى يومِ الدين، وكان عمرُ يسألُهُ عن حالِهِ لأنه يعلمُ أنَّ معهُ سرَّ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فكان يقولُ له: بينكَ
وبينَ الفتنةِ بابٌ. وكان عمرُ يسألُهُ: أيُكسَرُ أم يُفتَحُ؟ فقال: بل يُكسَرُ. فعَلِمَ. عُمَرُ أنه مقتولٌ لأن فتح الباب معناه الوفاة، أما كسر الباب فمعناه القتل. هكذا كانت قلوبهم شفافة منيرة، يسبق إيمانهم سماعهم للقرآن. فكانوا عندما يسمعون القرآن يسمعونه بقلوب مؤمنة، ولكن بعد ذلك أصبح الناس يقرؤون القرآن والإيمان في غيبةٍ أو في غفلة، فلا يتعلمون منه شيئاً بل يحفظونه. رسمه ويكون لفظه ولا يعرفون معناه. الصحيح أن الإنسان لا
بد عليه أن يدخل قراءة القرآن بأصل الإيمان وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله وأن الله فعّال لما يريد. نعم، وكان حذيفة رضي الله عنه أيضاً قد خُصّ بعلم المنافقين وأُفرد بمعرفة علم النفاق وأسبابه ودقائق الفتن، فكان عمر. وعثمان وأكابر الصحابة رضي الله عنهم يسألونه عن الفتن العامة والخاصة، وكان يُسأل عن المنافقين فيخبر بأعداد من بقي منهم ولا يخبر بأسمائهم، وكان عمر رضي الله عنه يسأله عن نفسه: هل يعلم به شيئاً من النفاق؟ فبرّأه من ذلك، وكان عمر رضي الله عنه إذا دُعي إلى جنازة ليصلي. عليها نظر فإن حضر حذيفة صلى
عليها وإلا ترك، وكان يُسمى صاحب السر. فالعناية بمقامات القلب وأحواله هو دأب علماء الآخرة، لأن القلب هو الساعي إلى قرب الله تعالى. وقد صار هذا الفن غريباً مندرساً، وإذا تعرض العالم لشيء منه استُغرب واستُبعد وقيل: "هذا تزويق المذكّرين"، فأين التحقيق؟! ويرون التحقيق. في دقائق المجادلات، ولقد صدق من قال: "الطرق شتى وطريق الحق مفردة، والسالكون طريق الحق أفرادٌ لا يُعرفون ولا تُدرى مقاصدهم، فهم على مهلٍ يمشون قصاد، والناس في غفلة عما يراد بهم،
فجلهم عن سبيل الحق رقاد". وعلى الجملة، فلا يميل أكثر الخلق إلا إلى الأسهل والأوفق لطباعهم، فإن الحق... أمرٌ والوقوف عليه صعب وإدراكه شديد وطريقه مستوعر ولا سيما معرفة صفات القلب وتطهيره عن الأخلاق المذمومة فإن ذلك نزعٌ للروح على الدوام وصاحبه ينزل منزلة شارب الدواء يصبر على مرارته رجاء الشفاء وينزل منزلة من جعل مدة العمر صومه فهو يقاسي الشدائد ليكون فطره عند الموت ومتى تكثر الرغبة في مثل هذا الطريق ونسأل الله سبحانه وتعالى السلامة من الدنيا أن
يعلق قلوبنا به حتى نلقاه، وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شكراً.