معاني شريفة من الهجرة النبوية | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نعيش هذه اللحظات عسى أن تحف هذا المجلس الملائكة الكرام وتغشانا الرحمة وتتنزل السكينة في قلوبنا، اللهم آمين. ونسأله أن يؤتي. سيدنا النبي الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، وأن يجازيه خير ما جازى نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه، وأن يصلي عليه صلاة تامة كاملة إلى يوم الدين،
وآله وصحبه. كل عام وأنتم بخير. هذا عامٌ أذِنَ بالرحيل من الأعوام التي عدَّ المسلمون الهجرة الشريفة الكريمة بداية لها، وكان هذا على... عهد سيدنا عمر كان رجل دولة يؤسس المؤسسات وينظم النظم ويشيع الخير ويبني الدولة، فدوّن الدواوين وجيَّش الجيوش ووضع الأنظمة، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه. وكان
سيدنا صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان فيكم محدَّثون لكان عمر"، وأهل الحديث مع الله يوضح لهم الله سبحانه وتعالى مراده في صورة. الإلهامات المتتالية يطمئنون إليها ويتحدثون بها عن يقين، حتى أنه وافق نزول القرآن الكريم من غير حول منه ولا قوة، بل بفضل الله سبحانه وتعالى أكثر من عشرين مرة، جمعها الشيخ حسن ربيع في كتاب "شهي السمر في
موافقات عمر" رضي الله تعالى عنه. تركوا لنا الدين سهلاً وتركوا لنا البشري واضحاً وعانوا من ذلك العناء الكثير، وكان اختيار سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يكون المحرم أول العام الهجري، وذلك لأن المسلمين يعودون من الحج، والحج مؤتمر يجمع المسلمين في الأرض على قبلتهم، يقررون ما يتوصلون إليه
من صالح البلاد والعباد، ثم يعودون إلى بلدانهم فيبدؤون. في تنفيذ التوصيات التي أقرّوها في ذلك المؤتمر الإلهي الرباني، هكذا كانت وجهة نظر سيدنا عمر في جعل المحرّم، وهو التالي لذي الحجة الحرام، أول سنة يعدّها، واختار الهجرة النبوية باعتبارها حدثاً فريداً في تاريخ المسلمين، وباعتبارها علامة فارقة فرّقت بين الحق والباطل، وبين حال المسلمين فرادى وحالهم في دولة. قد قامت لتعرف
كيفية التعامل مع الدول الأخرى وتصبح شخصية اعتبارية للدولة قادرة وفاعلة، فكانت الهجرة بداية خير كبير. تحدث الناس عن جعل بداية ذلك التاريخ ليس الهجرة وإنما نزول الوحي، أو أن يجعلوا بداية العام ليس المحرم وإنما رمضان أو شوال حتى يحتفلوا بمقدم العام مع عيد الفطر أو... نحو ذلك من الآراء، ولكن كان اختيار عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه اختياراً موفقاً له الحكمة التي
تكمن وراء هذا الاختيار، سواء للشهر أو سواء للبداية. وكلمة "هجرة" في حقيقة الأمر مكونة من حروف ثلاثة: الهاء والجيم والراء. ولاحظ الخليل بن أحمد لما اشتغل بجمع المفردات والأصول أن لغة العرب بها ما ليس في غيرها من اللغات حيث إن الحروف مهما اختلف ترتيبها تدل على معنى مشترك، فالأصل المكون
من الهاء والجيم والراء ينطق "هجر" لكنه أيضًا يمكن بترتيب آخر أن يكون "جهر" ويمكن بترتيب ثالث أن يكون "رهج"، وهكذا. فهل هناك علاقة في المعنى بين "هجر" و"رهج"؟ وجهر يسأل الخليل نفسه فيجد أن هناك معنى جامعاً يسري في هذه الحروف سريان الماء في الورد، أي إنك ترى أثره ولا ترى الماء الذي في الورد، ترى نضرة الوردة لكن لا
ترى الماء الذي هو سبب هذه النضارة، فجمع كتابه الماتع "العين" وجعل أول الحروف فيه العين وبنى. على هذا الترتيب معجمه، فإذا ذهبت إلى الهاء والجيم والراء ستجد معها الراء والهاء والجيم، والهاء والراء، وهكذا كل الاحتمالات. واحتمال الثلاثة ستة، يعني تستطيع ترتيب الثلاثة حروف بست طرق، بعضها نطق به العرب وهو الأقل، وبعضها لم ينطق به العرب وهو الأكثر، لأن العرب لو نطقت بكل هذه التركيبات لأصبح
عندنا كمٌّ من الكلمات بالمليارات، وهذا ليس شأن اللغة. محدودة، فيها من هذه التركيبات ثمانون ألف فقط، والباقي لم ينطق به العرب ويسمى بالمهمل، وهذا يسمى بالمستعمل. فما الذي في داخل هذه المعاني؟ قال: هاجر أي انتقل، والانتقال يقتضي أن يكون من مكان إلى مكان وأن... يكونُ هرباً وطلباً يعني
هارباً من الأرض الأولى وذاهباً ليطلب الأرض الثانية، فيكون فيها نوع من الانتقال ومن أنّ هذا الانتقال بين نقطتين، وأنّ الأولى من الهرب والثانية من الطلب. حسناً، وجَهَرَ يعني رفع صوته، جَهَرَ بالصوت وبالقول، ويقال للرجل حينئذٍ جَهْوَرِيّ، لا جُهُورِيّ كما ننطقها نحن هكذا خطأً. يقولون عنها جهوري، الصوت، أي أن صوته يبلغ
مدى لا يبلغه صوت غير الجهوري. أي صوته عالٍ، صوته فخيم وعالٍ. فمن أين خرج؟ خرج من الحنجرة. وإلى أين ذهب؟ النقطة الثانية: ذهب إلى أذن السامع. إذن هناك انتقال. والجهر ضد السر، أو أنه يريد أن يكون سراً؟ لا. يريد أن يكون سراً، يريد أن يهرب من السر إلى العلن. هذا فيه هروب وطلب، إذاً فيه انتقال، وهذا الانتقال فيه
قوة، وهذه القوة فيها هروب من أمر وطلب لأمر آخر. إذاً، هذه هي العلاقة بين جهر وهجر. وتأتيني كلمة "والنار ذو رهج" في الشعر هكذا، رهج يعني... ماذا؟ قم، أنا الآن تعلمت قصة سيدنا الخليل بن أحمد الفراهيدي، كان في عُمان من أهل عُمان. هؤلاء الله، هذه ثلاثة حروف: الراء والهاء والجيم، فينبغي أن يكون فيها انتقال، ويجب أن يكون هذا الانتقال بماذا؟ بقوة،
ويجب أن يكون فيها ماذا؟ هرب وطلب، ويجب أن يكون فيها وهكذا، إذاً رَهَج هذه فيها حركة هكذا، فيها انتقال هكذا. هو يقوم ويقول لي: "أنت عرفت كيف؟". لا أقول له أنا السر الذي تحدثنا عنه الآن. انتبه! قال يعني كأننا حفظنا لسان العرب. هي ليست مسألة حفظ، بل مسألة فهم. فاهم من أين يأتي الكلام العربي، والنار هذه، والنار ذو رهج، هذا الغبار والرائحة القوية واللذان يأتيان بشدة، من أين أتيت بهذه الشدة؟ من الهرب والطلب الذي هو القوة. فأنت عندما تهرب من شيء تجري، فالنار عندما تُذكى
تصبح تفعل هكذا. ما هذه الروعة! انظر كيف كان العربي يفهم، أن "سأهجرك" تعني "سأخاصمك"، وماذا تعني "سأخاصمك"؟ تعني سأهرب. منك وسأطلب غيرك وبقوة فأقول لا تهجرني، يعني بالله عليك ألن أراك مجدداً؟ نحن متخاصمون نعم، لكن لم نصل إلى مرحلة الهجر. عندما يأتي ويقول "واهجروهن في المضاجع"، يا له من قوم العرب يفهمونها على أنها... والمرأة عندما تسمعها بالعربية تفهم أن "اهجروا" هنا، ما هذه البلية التي حدثت؟
فعلتها لأنك تستحق أن تُهجر، فكانوا أثناء سماعهم القرآن فاهمين بعمق ما الذي حصل لنا. ما الذي حصل لنا أننا تعلمنا بعض اللغات الأجنبية ولم نتعلم العربية، فماذا حصل؟ حصل أننا نأتي بكلمة من هنا لا نفهم معناها ولا عمقها، وربما هي ليس فيها عمق أصلاً ولا. فاهمون عرب يصبحون مثل الغراب الذي جاء ليقلد الطاووس، فلا أصبح طاووسًا ولا عاد إلى مشيته الأصلية. يا لحالهم! كل هذا بسبب الهجرة. عندما تفكر هكذا، ستجد أن الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة. لكي تفكر بشكل صحيح، يجب أن تنطق
بشكل صحيح، وتتعلم بشكل صحيح، فتفكر بشكل صحيح، وبالتالي تصبح لا فائدة في ذلك. أهمية دراسة اللغة التي ينعى عليها كثير من الناس جهلاً منهم وسطحية وتسليماً لأنفسهم للهوى. فمعنى الهجرة إذاً انتقال هرباً من مكان - وكان مكة - لما بُذل فيها من جهد فلم يلقَ فيها النتيجة المرجوة. جلس في مكة أربعة عشر سنة، آمن معه مائتان، لما مكث فيها عشر سنوات آمن معه مئة وأربعة عشر ألفاً، مئة وأربعة عشر
مئة ألف على مئتين، أي خمسين ألف ضعف أو خمسة آلاف ضعف. مئة ألف على مئتين يساوي خمسة آلاف ضعف. تخيل كل يوم في المدينة بخمسة آلاف ضعف اليوم في مكة، لماذا؟ لأنه بنى. الدولة لأنه حصل استقرار، ولأن ملامح الاجتماع البشري ظهرت، وهكذا فهو كان هارباً من هذه البلاد التي أبَت، وذهب إلى أين؟ إلى المدينة طلباً لهذه البلاد التي احتضنت، ولذلك سمى الناس الذين فيها ماذا؟ الأنصار، وقال:
"لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغض الأنصار إلا منافق"، لأنه لا يكون فاهماً الله بصيرته الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ونحن نحب الأنصار ولا يبغضهم إلا منافق. سيدنا بعد أن فتح مكة تحدث الأنصار فيما بينهم أنه سيجلس في وطنه، فمعروف أن عزة الوطن في قلوب الكبار. وشعر النبي بهذا، فوزع الغنائم حتى قال صفوان بن أمية: "والله ما هذه عطية إلا عطية
ليس عنده ما هو الدنيا في يديه وليست في قلبه. نظر صفوان إلى وادٍ به النوق الحمر. نوق الحمر هذه النياق الحمراء تساوي النياق العادية بثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستين أو مائة أو ألف مرة. يعني النياق الحمراء هذه تساوي اثنين مليون، تساوي عشرة ملايين، والناقة الثانية يعني هذا خير كثير. النوق الحمراء هذه التي تملأ الوادي. قال: أتحبها يا صفوان؟ قال: نعم يا عبيد الله. أيُكره هذا
الخير كله؟ فقال: هي لك. فصفوان، الجنة، ماذا حصل له؟ ما حاجته للجنة؟ والله، ما حاجته للجنة. هي لك. قال: والله ما هذه لا يقدر أحد أن يعطيها، هذه تنبأ صفوان بن أمية الذي كان لا يزال مشركًا ثم أسلم، فذُهِل قائلاً: "ما هذا! لا أحد يعطي هكذا" أعطاه سيدنا بهذا الشكل. فقال الأنصار: "هل نحن ليس لنا شيء؟" فقال لهم: "أترضون أن يذهب الناس بالأموال الكثيرة وهي قليل من الفضة والذهب، وتذهبون أنتم برسول الله صلى الله عليه خلاص
وذهبوا برسول الله حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى بينهم ودفن فيهم فشرفهم ونورهم إلى يوم القيامة. سيدنا، أرأيتم يعني آثار القصور الحمراء هذه؟ لم يتبق منها شيء. ألم تروا أنه لم يبق منها شيء؟ وصفوان الذي تسمعون عنه في الكتب، أين هو؟ والأموال هذه ذهبت لأبناء صفوان. يرونهم يعني يعرفونهم، والله أبداً، لكن سيدنا الذي يعرفه كل الناس، العدو قبل الصديق،
والكافر قبل المؤمن، ويعرفون مكانه، والمسلمون يذهبون إليه ولو أنهم ظلموا أنفسهم "جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً"، فيذهب إليه المسلم ويقول: يا رسول الله، جئتك من مكان بعيد بذنوب كثيرة فادعُ. اللهَ أن يغفرَ لي فيدعو اللهَ فيغفرُ اللهُ لك بزيارتي للحبيب المصطفى في تلك المدينة الطيبة. أين ذهبت أموالُ صفوان؟ لقد ذهبت أموالُ صفوان وأصبح سيدُ الخلقِ أجمعين أمماً تذهبُ
للزيارة وللحج ولتماس البركات والدعاء لأن هذه الآية لم تنسه: "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك". سيقولون أين هو؟ ما جئتُ إليه عند قبره يا بني آدم، هذا ليس بشراً عادياً أبداً الذي نزوره، وقبره هو القبر البارز الوحيد من قبور الأنبياء على سبيل اليقين، وكلما صلينا عليه رد الله إليه روحه فيرد علينا السلام. تذهب هكذا وتقول له: أنا جئتُ إليك ها أنا ذا، وأنا ارتكبتُ ذنوباً كثيرة، استغفر فيغفر ربنا سبحانه وتعالى
فتتغير حياتك، لأنك بدأت صفحة بيضاء، فهذا هو معنى الهجرة. يسأل سائل: هل انقطعت الهجرة؟ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية". انشُر إذاً، فقد تحملنا عنك ما هنالك، وإنما سيدنا صلى الله عليه وسلم كان يوسع لنا المعاني من... تعدون الشهيد فيكم قالوا: من قاتل في سبيل الله المشركين فقُتل. قال: إذاً شهداء أمتي قليل. ها، سينقلنا
إذاً من المعنى الاصطلاحي إلى معنى أوسع في الشريعة. إذاً فشهداء أمتي قليل. الذين يموتون في الحرب هؤلاء يكونون لا، هؤلاء قليل، هؤلاء شيء آخر، هؤلاء درجة أولى، هؤلاء من. مات غريقاً فهو شهيد، والمرأة تموت بسبب النفاس أو بسبب الحمل فهي شهيدة، والمبطون شهيد، أي إصابة داخل الجسم يُطلق عليها "مبطون" ومنها السرطان وأمراض القلب والكبد، فمن مات بذلك فهو شهيد. كل هؤلاء شهداء، وهناك واحد
وعشرون نوعاً من أنواع الشهادة ألّف فيها سيدنا شيخنا عبد الله بن الصديق. أتحف الغماري النبلاء بدرجات الشهادة وأنواع الشهداء، حيث أحصى فيها واحداً وعشرين نوعاً مما ورد في الأحاديث. فمرة يورد سبعة، ومرة يورد خمسة، ومرة يورد ثلاثة، ومرة كذا. وبجمعهم بلغوا واحداً وعشرين نوعاً من أنواع الشهادة غير قتيل الحرب في سبيل الله، وهذا هو الشهيد الأكبر؛ لأنه جاد بنفسه. لربه فإذا يُغيّر المعاني ويوسعها علينا. ذهب منا الجهاد يا رسول الله، السيدة عائشة تقول له هكذا عليها السلام،
فقال: "جهادكن الحج". إذاً الحج هذا جهاد المرأة والشيخ الكبير الهَرِم والطفل، هؤلاء يريدون أن يجاهدوا. طيب، الشيخ لن يستطيع أن يمسك السلاح ولا يقفز على الفرس ولا يجري. فماذا نفعل؟ يحج فيصبح كأنه جاهد في سبيل الله، "وجاهدوا في الله حق جهاده واجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم"، فالهجرة الهجرة. قال: والمهاجر - سيدنا قال هكذا في البخاري -
والمهاجر من هاجر ما نهى والسعة علينا، فالهجرة بهذا المعنى باقية إلى يوم القيامة. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.