مكونات العقل المسلم | 10 | الظاهر ونفس الأمر جـ 1 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم، من هذه المكونات أن العقل المسلم تراه يفرق بين ما يمكن أن نطلق عليه الظاهر وبين ما يمكن أن نطلق عليه الحقيقة أو نفس الأمر، وتراه وهو يتكلم عن الواقع. ونفس الأمر يعني ويفرق بينهما بفرق دقيق، الظاهر والحقيقة اهتمت بها أيضاً الفلسفة ولهم فيها كلام كثير، ولكنها فعلاً من اختيارات العقل المسلم ومما
يؤمن به، وهي جزء من مكونات هذا العقل. يمكن أن نعرف الظاهر في بعض الأحيان والعبارات العلمية الإسلامية الواقع بأنه ذلك الذي يدركه الإنسان باعتباره. إنسانًا إدراكًا بحواسه الخمسة، إذا هذا الذي يدركه آدم والذي يدركه بعد ذلك بمئات وآلاف السنين إنسان يعيش في أي مكان في العالم باعتباره إنسانًا بحواسه
الخمس: العين، الأذن - يعني الرؤية أو الإبصار - والسمع والتذوق والشم واللمس. الإنسان يدرك العالم الذي حوله بهذه الحواس الخمس، ولذلك الواقع يشترك كل إنسان سواء كان مؤمناً أو غير مؤمن، وهذا سيفيدنا في إقامة الأدلة على وجود الله، لأنه لا بد أن نبحث عن مشترك بيننا وبين العالم نخاطبهم من منطلقه. من هذا المشترك، فما الذي يشترك فيه بنو الإنسان؟ هو إدراك الواقع. هل هذا الواقع المحيط بنا يعني هو نفس الأمر؟ في الحقيقة، بعد
أن اكتشف الإنسان المجهر سواء كان المكبر أو كان المجهر الذي يرى الأجرام أو المجهر الذي يرى الصغير، ولذلك سموه تلسكوب وميكروسكوب. التلسكوب ترى به الأمور البعيدة والضخمة كالشمس والقمر والنجوم والكواكب والسماء والمجرات إلى آخره، لكن الميكروسكوب ترى به البكتيريا التي لا تراها بالعين المجردة. وترى به حقيقة ورقة النبات أو حقيقة خلية
الدم عند الإنسان، ترى عالمًا آخر لا نراه بالعين المجردة. يقولون إن أقل من عشرين ذبذبة في الثانية لا تستطيع الأذن البشرية أن تسمعها، وكذلك الانفجارات الكونية الضخمة لا تستطيع الأذن أن تسمعها لأنها أكثر من التردد المسموح به، عشرين هنا مثلًا. كحد أدنى والحد الأعلى كذا، الذبذبة هي أعلى بكثير من هذه الذبذبات، ولذلك لا نسمعها. إذاً نحن نرى الواقع فقط ولا نرى نفس الأمر. يمكن أن نرى بعض نفس الأمر عن طريق المجهر، التلسكوب أو الميكروسكوب. يمكن
أن نسمع فقط ولكن عن طريق الجهاز، عن طريق آلة، الواقع ندركه بحواسنا. الإنسانية، ونفس الأمر نتوصل إليه بأشياء أخرى فوق الحواس الإنسانية، من ضمن هذه الأشياء الآلات. نحن عندما نتعامل مع الماء، ما الذي نراه؟ نرى سائلاً شفافاً لا لون له ولا طعم له. هل هو مر أبداً؟ هل هو حلو أبداً؟ هل هو قابض؟ هل هو حمضي؟ كل هذه الطعوم التي... نراها في الفواكه أو نراها في المصنعات، لا نراها في الماء، فالماء عديم اللون عديم
الطعم، وهو أيضاً ليس له جرم، بل هو سائل لطيف. أكثر الله من الحاجة إليه، فترانا نحتاجه في الزراعة، وتراه نحتاجه في الشرب والحياة، وترانا نحتاجه في الطهارات والنظافة، وترانا نحتاجه في أشياء كثيرة، وجعلنا... من الماء كل شيء حي. هذا الماء اكتشفنا بعد مضي آلاف السنين بعض حقيقته ودائرة من حقيقته وهو أنه مكون من الهيدروجين والأكسجين. فلما كان الهيدروجين غازًا وجدناه أنه غاز يشتعل، والأكسجين وجدناه أنه غاز يساعد على الاشتعال، فكان الماء مكونًا من نار الله
الموقدة، غاز يشتعل والآخر يساعد على اشتعاله، هل هذا هو واقع الماء أبدًا؟ الماء سائل لطيف يهدئ الجسم ونستعمله في إطفاء النار، لكنه هو نفسه مكون من عنصرين تشتعل بهما النار أو هي في اشتعال. هذه هي حقيقة الماء أو الأمر نفسه بالنسبة للماء، فسبحان الله الذي يجعل من غاز الهيدروجين الذي هو غاز والأكسجين الذي ومنهما وهما يشتعلان، يشتعل أحدهما ويساعد الآخر على اشتعاله، يجعل منه ماءً باردًا طيبًا يُحدث الري عند الإنسان، ويُحدث إطفاء النار، ويُحدث الطهارة والنظافة،
ويحتاج إليه الزرع والضرع. وكل هذا إذا كان إدراكنا للماء على ما هو عليه بصفاته الطبيعية التي خلقها الله في طبيعته، غير إدراكنا بصفاته الكيميائية التي هذه الحقيقة، ثم إن هذه الحقيقة في دوائر لا تتناهى. فلو أخذنا الهيدروجين لوجدناه أنه يتكون من ذرة، وأن هذه الذرة مكونة من نواة كما يقول فريق من علماء الطبيعة ومنهم أينشتاين. ولكن طبعاً هذا ليس محل اتفاق وما زال محل أخذ ورد، ولكن أغلب العلماء يقولون هذا، إنها مكونة. من نواة وإلكترون
واحد وأن هذا الإلكترون ذو شحنة سالبة وأن هذه النواة مكوَّنة من مجموعة من المكونات داخل هذه النواة، بعضها متعادل وبعضها إيجابي وبعضها كذا وكذا، ويتكلمون بتبحر في الذرة، وبعض الفلاسفة ينكر هذه الأمور المتتالية في عقله، ولكن الآخرين أيضاً لم يثبتوا هذا، أي أنهم معملياً لم يُثبتونه بالنظر، هو فسَّروا به الظواهر فقط، ولذلك فهو ليس محلاً للاتفاق الظاهر، ونفس الأمر سنراه في حلقة قادمة، العلاقة بين الظاهر ونفس الأمر، ونرى كيف أن الشريعة تتعلق بالظاهر لا
بنفس الأمر. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.