مكونات العقل المسلم | 11 | الظاهر ونفس الأمر جـ 2 | أ.د علي جمعة

مكونات العقل المسلم | 11 | الظاهر ونفس الأمر جـ 2 | أ.د علي جمعة - التفكير المستقيم, مكونات العقل المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم، ذكرنا قبل ذلك أن من تلك المكونات قضية الظاهر والحقيقة، أو الظاهر ونفس الأمر، الواقع ونفس الأمر. وقلنا إن الظاهر أو الواقع إنما هو ما يُدرك بحس الإنسان كإنسان، ولذلك. فهو لا يختلف عبر القرون، آدم عندما تناول الماء شعر بنفس الشعور الذي إذا ما تناولته أنا الآن أشعر به، وعندما رأى الشمس شعر بحرارتها، وعندما استعمل النار ونحو ذلك، إنما عرف أن النار محرقة وأن الشمس مشرقة وأن الماء يسبب الري وأن الإنسان
يجوع فيأكل الطعام فتسد جوعته. إلى آخر ما هنالك من تعامل بالحس الإنساني، أما نفس الأمر فرأينا أنه دوائر. فلو أخذنا مثلا قضية ورقة الشجر، فإنها خضراء لها شكل معين، إما أن يكون مستطيلا وإما أن يكون مدببا وإما أن يكون مستديرا، وهكذا. أوراق الشجر تختلف باختلاف أنواعه، لكن إذا وضعناها تحت المجهر، تحت... الميكروسكوب فإننا نرى اليخضور ونرى السيلولوز ونرى مكونات لهذه الورقة لم تكن ظاهرة لنا من غير الميكروسكوب. كذلك عندما بالكاثود والأنود أو المصعد والمهبط نحلل الماء
فإننا نجد أنه مكون من ذرة من هيدروجين وذرتين من الأكسجين أو العكس ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين. الهيدروجين يشتعل والأكسجين يساعد. على الاشتعال إذا نحن أمام نار الله المقلب، ولكنها ماء. عندما جاءت الأحكام الشرعية جاءت على الظاهر لا على نفس الأمر. من مكونات العقل المسلم أن الشريعة لما ارتبطت، ارتبطت بالظاهر لا بنفس الأمر، وهذا يفسر لنا كثيراً جداً من أحكام الفقه الإسلامي، يفسر لنا كثيراً جداً من فكر الفقه. الإسلامي ولذلك أدركنا
لهذا المكوِّن وهو أن هناك فارقاً بين الظاهر والحقيقة أو بين الواقع ونفس الأمر، وأن الأحكام الشرعية عندما أتت إنما تعلقت بالظاهر لا بنفس الأمر، يحل لنا إشكالات كثيرة جداً، منها مثلاً عندما رتب الله سبحانه وتعالى الأحكام رتبها على الماء، فأمرنا بالوضوء وأمرنا بالاغتسال وأمرنا بالتطهر. به وبتطهير النجاسات بالماء عندما أمرنا سبحانه وتعالى بهذا الأمر فإنه لم يلفتنا إلى كون الماء مكوناً من غازين وأن غازاً يشتعل وغازاً يثلج. هذا لا علاقة لنا به. نحن لنا علاقة بما هو حاصل أمامنا من الظاهر وليس
بما هو قائم في حقيقته والذي يعلمه الله سبحانه وتعالى فهو الذي خلق هو الذي كوّن الهيدروجين والأكسجين وجعله ماءً وجعل من خواص الهيدروجين الاشتعال ومن خواص الأكسجين أن يكون مساعدًا على الاشتعال، لكن بالرغم من ذلك لم يرتب الأحكام على هذه الحقائق التي يعلمها سبحانه وتعالى، وإنما على الظاهر الذي أمامنا، ولذلك أمر الله أن يأخذ بالظاهر وأن يتولى الله. سبحانه وتعالى السرائر، أمر القاضي بأن يأخذ بالبينة والشهادة، ويأخذ باليمين، ويأخذ ببحثه في ظاهر الأمر، لكن من الممكن أن تكون الحقيقة عند
الله سبحانه وتعالى مختلفة، وأنني قضيت لهذا بالأرض ولكنها ملك لآخر، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قطعت له أرضاً أو حكمت له بأرض وهي ليست له". طُوِّق بكل شبر منها سبع أرضين يوم القيامة لأنه في يوم القيامة ستظهر الحقيقة، والله سبحانه وتعالى أمرنا هنا، وحكم القاضي ينفذ في الحياة الدنيا، ولذلك لما حكم القاضي لهذا الإنسان بالأرض وهي ليست له عند الله التي سوف يكون محلها يوم القيامة، فإنه يجوز أن تشتري منه هذه الأرض. هي أرض ليست مغصوبة، هذه أرض أصبحت ملكه بحكم القاضي. صحيح أنه قد ظُلِمَ الآخر، صحيح
أنها عند الله إنما هي للآخر، فهذا إذا كان يعلمه هذا الإنسان سيحاسب عليه يوم القيامة. أما إذا كان لا يعلمه وكان يظن فعلاً أنها له وأنها تركة من أبيه أو ما شابه ذلك إلى آخره. فلا شيء عليه حتى لو كانت في نفس الأمر هي لغيره، فإنه لا يعاقب عليها، ذلك مبلغه من العلم، والله سبحانه وتعالى يحاسبنا يوم القيامة على مبلغنا من العلم وليس على نفس الأمر. هناك أشياء كثيرة جداً في الفقه الإسلامي مثل قضية النسب "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، أليس هناك احتمال؟ أن الولد هذا الذي أتى على فراش زوجين تزوجا
بكلمة الله وعلى سنة رسول الله زواجاً حلالاً، وأن يكون هذا الولد من زنا، وأن المرأة تكون قد زنت والعياذ بالله تعالى، فهذا احتمال وارد، ولكن الشرع يأبى أن يدخل في هذا. هل معنى هذا أن الزنا حلال؟ ليس حلالاً قطعاً. بل هو حرام ولو اكتشف أو اعترف بهذا الزنا كان فيه حد كبير وهو يصل إلى الرجم لأنه في زواج. هنا إذا القضية هي أننا نتعامل في الحياة الدنيا على الظاهر والأحكام مترتبة على الظاهر، فيجب على هذا الطفل أن ينسب إلى أبيه وإلى أمه ولا يجوز لأحد من الخارج. أن يأتي ويقول على فكرة
أنا زنيت بهذه المرأة وأن هذا الطفل طفلي ويجب أن ينسب إلي، لا لا يمكن أن يقال هذا لأننا نأخذ بالظاهر لا بنفس الأمر، والظاهر يحترم الأسرة ويحافظ عليها ويمنع الأوباش من أن يقاربوها والعصاة أن يهدموها، ولذلك الأحكام تترتب على الظاهر دائمًا وليس على نفس الأمر ذبابة وقفت على نجاسة ثم طارت ثم وقفت على ثيابها، عندما وقفت على النجاسة عَلِقَ بها بدون شك قدر معين من النجاسة. هذا في حقيقة الأمر لا أراه بالعين المجردة، قد أراه إذا وضعت هذه الذبابة تحت مجهر الميكروسكوب وبحثت عن كمية النجاسة
التي عندها في... أرجلها لكن الشرع لا يكلفك بهذا، وعندما تضع أقدامها النجسة على الثياب لا تتوسع، لا يُحكم على هذه الثياب بأنها قد تنجست. فيقول: "ويُعفى عن النجاسة التي لا يدركها الطرف". كلام الفقهاء معنى هذا أننا نأخذ بالظاهر، لأن النجاسة التي أصبحت على ثيابي لا يدركها الحس البشري المعتاد، وإذا أردنا أن نصل إليها فعلينا أن نضع هذا الثوب تحت المجهر. أنا لست مكلفاً بهذا ولذلك فهذا من المعفوات. حتى لو كان العقل يقول لي يقيناً أن الذبابة هذه عندما وقفت
وأتت أنها نقلت شيئاً من النجاسة، فهذا يعني أن هناك شيئاً من النجاسة هكذا ينجس ما بين السماء والأرض ولكن نحن أبداً. نتعامل مع الظاهر ولا نتعامل مع نفس الأمر، الشريعة كلها هكذا في البيوع، في الزواج، في العبادات، في كل شيء، نتعامل مع الظاهر. من رحمة الله هنا كثير من الناس يريد أن يفتش ويسأل ما الذي في نفس الله سبحانه وتعالى. ربنا سبحانه وتعالى سد علينا هذا، والنبي صلى الله. عليه وسلم قال من اجتهد فأخطأ فله أجر ومن اجتهد فأصاب فله أجران وفي رواية للدارقطني إذا اجتهد فأصاب فله عشرة أجور ثواب وإذا اجتهد فأخطأ
فله أجران يعني هنا له أجران حتى على خطئه لأنه بذل وسعه في تحصيل الحكم الشرعي بذل وسعه في إدراك الظاهر وفي إيقاع الحكم عليه إذاً من مكونات العقل المسلم، فرق بين الظاهر وبين نفس الأمر، وأن الشريعة بُنيت على الظاهر ولم تُبنَ على نفس الأمر. ودائماً ستجد هذه الأحكام أن الشريعة بُنيت دائماً على الظاهر ولم تُبنَ على نفس الأمر، وهي قاعدة ستفيد الفقهاء باعتبارها مكوناً من مكونات العقل المسلم، ستفيد الفقهاء. في استمضاء
وترجيح واختيار كثير جداً من الأحكام الفقهية التي قد لا يتسع الوقت للاستفاضة فيها إلى لقاء آخر. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.