مكونات العقل المسلم | 12 | إدراك الواقع | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مكونات العقل المسلم أنه دائماً يسعى إلى إدراك الواقع والحقيقة. فالعقل المسلم لأنه يريد أن يفهم الشريعة وأن يطبق الشريعة، فإنه يريد أن يفهم المصادر الشرعية من ناحية ويريد... أن يدرك الواقع من ناحية أخرى ويريد أن يربط بينهما جسرًا، هذا الجسر يمكّنه من إيقاع وتطبيق هذه
الأحكام الشرعية على ذلك الواقع المعيش. هذا كلام نسمعه كثيرًا، ولذلك ينبغي علينا أن نقف عند هذه النقطة التي تكون إدراك الواقع: كيف وماذا وبماذا يدرك العقل المسلم الواقع؟ فكَّر علماء... الحضارة كثيراً في تعريف الواقع، بعضهم عرَّف الواقع بأنه مصلحة، أي ما ينفع الناس. ينبغي علينا أن نتأمل فيما ينفع الناس، وأن الشرع يراعي المصلحة، وأن المصلحة منها ما
هو معتبر في الشرع بأن نص الشرع عليه، ومنها ما هو ملغي في الشرع، أي هو فعلاً منفعة لكن الشرع. جاء والغا ومنهما هو مرسل ويسمى بالمصالح المرسلة. لم يلغها الشرع ولم يعتبرها الشرع. البيع والشراء والزواج والطلاق فيه مصالح أقرها الشرع. الشهوة وقضاؤها عن طريق الزنا والفاحشة فيها مصلحة وقضاء للشهوة ألغاها الشرع وقال أبداً: "إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً". وهذه المنفعة التي من ورائه لا نريدها ونحن نلغيها. ومن
تهوَّر وذهب بنفسه إليها يُقام عليه الحد، والحد نُفرِّق فيه بين المُحصَن وغير المُحصَن إلى آخر هذا، بحيث أننا نعرف من الشريعة أن الزنا هذا فاحشة ومعصية وقذارة، ولكنه في مصلحة، لكن هذه المصلحة ملغاة. السرقة فيها مصلحة السارق، يريد أن يتمتع بما سرق، لكن هذه المصلحة ملغاة. القتلُ فيه نوعٌ من أنواع التشفي والانتقام وإراحة النفس بأخذ الثأر، ولكن هذا فيه مصلحةٌ لهذا القاتل، لكن هذه المصلحة مُلغاة، ألغتها الشريعة وحاربتها وجرّمتها وعاقبت
عليها إلى آخره. وهناك مصالح مرسلة كالمصالح التي في الإدارة، إدارة الدولة. المُجمل أن الشريعة تسعى إلى المصلحة. هل الواقع هو المصلحة؟ بعض الناس هذا وبعض الناس يفكر أكثر ويقول إذا قلنا أن الواقع هو المصلحة، هذه المصلحة لا بد أن نراعيها في الواقع، لكن ما هو الواقع الذي نتكلم عليه ونريد أن ندركه؟ قال مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة" أن هناك عوالم ثلاثة: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار بعد. مالك بن نبي
تحدث أناس عن العلاقات بين هذه العوالم الثلاثة: عالم الأشياء - ويقصد بعالم الأشياء ما لم يكن إنساناً، أي الكون من حولنا، هذا هو عالم الأشياء - وعالم الأشخاص والإنسان. إذن كل أنواع الحياة النباتية والحيوانية والجمادات وما إلى آخره هي من عالم الأشياء في هذا التعريف هو عالم الأفكار، قالوا هناك علاقات بينية تحدث عالماً آخر غاية في الأهمية ويجب علينا أن ندرسه وهو عالم الأحداث. فصارت العوالم أربعة. بعضهم قال: الأحداث مع الأفكار مع الأشياء مع الأشخاص تكوّن عالماً خامساً ينبغي أيضاً أن نهتم به وهو عالم النظم.
إذاً ما نرى علماء الحضارة يتكلمون في... العوالم الثلاثة أو العوالم الأربعة أو العوالم الخمسة، ولكننا بدأنا نضع أيدينا على مفهوم معين محدد للواقع ونتعامل معه. هناك طبعاً أثناء التفكير اعتراضات، فيقول: كيف تسمون هذا عالم الأشياء، والشيء في اللغة يُطلق كما يقول سيبويه على المستحيل مثلاً؟ نعم، الشيء في اللغة أطلقه الشاعر على الله جل جلاله. قل أيُّ شيءٍ أكبر شهادة؟ قل الله. سبحانه وتعالى بهذا المفهوم، ولأنه موجود حقيقةً هو شيء، ولكن قد
يكون للكلمة عموم بحسب اللغة فيرد عليها خصوص بحسب الاستعمال. كلمة لها عموم في حسب اللغة، مثل كلمة "دابة" تطلق على كل ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان أو يسير على الأرض يكون دابة لكنه خُصَّ الاستعمال بالحمار والحصان، فعندما يقول إنسان لآخر "يا دابة" كأنه يسبه بالرغم من أنه يدب على الأرض. بعض الناس المتفقهين يقولون على السيارة "دب"، وعندما يُسأل: لماذا تسميها "دب"؟ يقول: لأنها في اللغة هكذا، تدب دبيباً. إذًا لا مشكلة، هذه قضية أخرى، لكننا يُراد بها في اللغة العموم
ويُراد بها في الاستعمال معنى خاص، وهكذا يكون الاصطلاح. إذاً، فإطلاق عالم الأشياء على الكون هو اصطلاح ينبغي علينا أن نُحدِثه. والأشخاص: يتميز الشخص بأنه هو الإنسان، وهو سيكون محلاً للأفكار سواء أنشأها أو تلقاها أو ناقشها ورفضها إلى آخره. اختيارنا للعوالم الأربعة إنما هو... من أجل التفهيم لإدراك الواقع وأن كل عالم من هذه العوالم له منهج للتعامل معه، عالم الأشياء نتعامل معه بالعلم، نتعامل معه بنظرية الواقع، ونفس الأمر أو الظاهر والحقيقة، نستعمل للوصول إلى حقائقه المتداخلة كثيراً جداً ما يسمى
بالمنهج التجريبي والعلمي. هذا المنهج التجريبي سوف يفيدنا في مجال الطب. والهندسة والفلك وما إلى ذلك، ومساحات طويلة عريضة في الفيزياء والكيمياء وغيرها. نحن نتحدث عن مكونات العقل المسلم الذي ندعو الناس جميعهم للإيمان بها، ومنها الإيمان بالله والإيمان برسوله والإيمان بالوحي والإيمان بالتكليف والإيمان بما نفصله تفصيلاً. عالم الأحداث ينبغي علينا أن نفهمه وأن نحلله. وأن نعرف كيف نستنبط منها، وأننا إذا ما اتجهنا في دراسات المستقبل لشيء ما، والذي يسميه الفقهاء المسلمون المآلات -
فدراسات المستقبل كلها مبنية على المآلات، وهذه المآلات تحتاج إلى علم. هذا العلم تطور بعد ذلك وسُمي بدراسات المستقبل. هذا العلم يبين لنا المآلات لأن معرفة الأحكام والفتوى أيضاً متعلقة المآلات التي تُسمى الآن تنبؤات، انظر إلى الفرق بين الاستعمالات الإسلامية والاستعمالات غير الإسلامية. نحن نسميها المآلات، والفقه المالكي يهتم كثيراً بالمآلات، والفقهاء يضعون المآلات في مكانها الصحيح. ثم تُسمى بعد ذلك دراسة المستقبل أو بالتنبؤات. نحن ننفر من كلمة تنبؤات لأن لها دلالات شرعية أخرى، ولكنه المعنى نفسه. أحتاج إلى ما تقول هذه الأحداث التي حولنا حتى نفهم بعمق وحتى نفتي الفتوى الصحيحة التي تحقق
مصالح الناس في كل ذلك. الأفكار هي عالم الأفكار وهو عالم متموج، ينبغي أن يتحرك وينبغي أن يكون حراً طليقاً. نحن نبني على الواقعية، على الحقائق، على البرهان والدليل، على التفكير المنطقي، ولذلك المسلمون وقد اهتموا اهتماماً بليغاً بتنقيح وتنقية المنطق الأرسطي. فأرسطو عندما ألَّفَ "الأرجانون" العظيم، ألَّفَ المنطق، ولكن جاء المسلمون فحذفوا منه كثيراً وأضافوا إليه كثيراً، وطبعوه بطابع اللغة العربية، وأصبح معياراً للعلوم ومدخلاً أوجده الغزالي في بداية كتابه "المستصفى في أصول الفقه" وجعله مفتاحاً.
للعلوم وأنه لا يمكن أن ندخل العلوم إلا بهذا القدر من المنطق، وهذا المنطق سُمي بذلك لأن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة، فالفكر المستقيم لا بد له من نطق لغة مستقيمة أيضًا. ولذلك فارتسمت عندنا هذه الصورة لجلال المنطق وأهمية المنطق، المخلوط بالأوهام والترهات والخطاب والشعر وما إلى ذلك. حرَّموه، ولذلك ترى ابن الصلاح والنووي وابن الصلاح والنووي حرَّما وقال غيرهم: "ينبغي أن يُعلم"، والقول بجوازه لكامل القريحة مُوافق
للسنة والكتاب ليهتدي بها إلى الصواب. إذاً هذه عملية أسلمة، عملية تحرير، عملية صياغة لمعيار يمكن أن نقيس به بعد ذلك عالم الأفراد. لا نحجر على الفكر أبداً، الفكر لا. يُحَلّ إلا بالفكر والبرهان، لا يُقام إلا أمام برهان، والمناقشة ينبغي أن تكون حرة طليقة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر بعد ذلك. ولذلك فحرية الفكر وحرية التفكير وحرية الأفكار هي متاحة في دين الإسلام. رأينا ابن الراوندي الفاسق الذي ألحد وملأ الأرض ضجيجاً بكتبه، لا يقتلونه العلماء بل عنه أنه عندما التقينا به في
المكان الفلاني فقال كذا وقلنا له كذا وإلى آخره، نرى أنه لم تنشأ في تاريخ المسلمين محاكم للتفكير، ولم يحدث أن أُخِذَ أحدهم بجريرة تفكيره، إلا أن يكون ذلك ليس من قبيل التفكير بل من قبيل القدح في النظام العام، فيذهب حينئذٍ إلى القاضي. وليس إلى حجر الفكر، ولذلك رأينا الناس وقد تألموا جداً لمقتل الحجاج مثلاً واعتبروه خطأً، لأن هناك كثيراً جداً من المفكرين الذين وصفهم الناس بأنهم كفار وأصبحوا بعد
ذلك من مفكري الإسلام، ولذلك فالفكر صديق لا يقيده أحد. رأينا أناساً كثيرين يعترضون على أبي العلاء المعري، يعترضون على ابن تيمية. تعترض على الكندي، وتعترض على الفارابي، وتعترض على ابن رشد، وتعترض على وهكذا، ولكن في النهاية كل هؤلاء... أصبح ابن رشد حجة من الحجج، يُدرَّس كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" في الأزهر، وأصبح كتابه عن "تهافت التهافت" يُدرَّس وغيره من الكتب الكثيرة، وأصبح هناك مؤتمرات تتحدث عنه وعن ابن سينا. وعن كذا وكذا، إذا كان إدراك الواقع مكوناً من مكونات العقل المسلم، نستطيع به أن ندرك ركناً من أركان الفتوى؛ لأننا لا بد
أن ندرك المصادر وكيفية استنباط الأحكام منها، وندرك الواقع، ثم ندرك كيف نصل بينهم. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة