مكونات العقل المسلم | 13 | اللغة | أ.د علي جمعة

مكونات العقل المسلم | 13 | اللغة | أ.د علي جمعة - التفكير المستقيم, مكونات العقل المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مكونات العقل المسلم اهتمامه اهتماماً بليغاً باللغة، وأنه يفرق بين قداسة اللغة وبين اللغة المقدسة. اللغة المقدسة عنده هي اللغة التي كُتب بها نص إلهي وكتاب رباني، ولذلك فسنعتبر اللغة العبرية مثلاً. التي كتبت بها التوراة التي أنزلها الله على سيدنا موسى أو السريانية الآرامية التي أنزل الله بها الإنجيل على سيدنا عيسى أو العربية التي
نزل بها القرآن الكريم هي لغة مقدسة، وإذا اعتبرنا أن الفيدا إنما هو كتاب قد نزل أيضاً وأن أصابه شيء عبر التاريخ فتصبح اللغة السنسكريتية أيضاً. هي من اللغة المقدسة. اللغة المقدسة هي التي كُتِبَ بها النص المقدس عند أتباعه والمؤمنين به. قداسة اللغة أمر آخر، هل اللغة لها قداسة بحيث أننا لا يجوز لنا أن ندخل فيها شيئاً أو أن نطور فيها قواعد معينة؟ هذا أمر آخر له مذاهبه وله خطواته وله آراؤه وليس
هو. مرادنا الآن هو اللغة المقدسة وأنها مكون من مكونات العقل المسلم. لغة العرب كانت لغة واسعة كبيرة، والعرب ينقسمون إلى قسمين: عرب عاربة بائدة، وعرب مستعربة. العرب البائدة منهم شديث ومنهم طسم ومنهم جرهم، وهي قبائل قديمة جداً موغلة في القدم لها لغة، والمستعربة منهم العدنانيون ومنهم.
القَحطانيين وكلُّ واحدٍ منهما له استعمالاتٌ معينة، وتنقسم هذه الفروع إلى شُعَب، والشُّعَب إلى قبائل، والقبيلة إلى بطون، والبطون إلى أفخاذ، وهكذا. يعني هناك تقسيمات في هذا المجال. العرب قبائلها كثيرة ولهجاتها كثيرة. ولمّا جاء المسلمون جمعوا لغة العرب جمعاً واحداً من غير تمييز بين قبيلة وأخرى، وسبب ذلك أنهم لو كانوا جمعوا كلام كل قبيلة على حدة لطال الأمر هذه أوله ولتكرر
في كثير جداً من المشتركات بين القبائل، ولذلك تعاملوا مع القبائل العربية كلها كشيء واحد وإن اختلفت اللهجات وإن اختلفت الدلالات، فظهرت بعض الظواهر في لغة العرب منها الاشتراك أن تكون الكلمة واحدة ولها معانٍ متعددة. العين مثلاً معناها الجاسوس، ومعناها العين التي نُبصر بها، ومعناها حرف الهجاء، ومعناها الذهب، ومعناها الفضة، ومعناها الشمس، ومعناها البئر. لها معانٍ كثيرة، فهذه كلمة واحدة ولها معانٍ كثيرة. ظهر هذا الاشتراك لأن الجامعين للغة جمعوا القبائل كلها، ولغة القبائل
كلهم في سياق واحد، ولذلك وجدوا العين هنا بمعنى الجاسوس. والعين هنا بمعنى البئر، والعين هنا بمعنى الجارحة المبصرة، والعين هنا بمعنى الحرف، والعين هنا بمعنى الشمس، إلى آخره. وجدوا ظاهرة أخرى وهي ظاهرة الترادف، أن معنى واحداً يكون له عدة كلمات. هناك سيف والمهند واليماني والحسام والبتار وأشياء كثيرة للسيف، حتى قيل إن الأسد أطلقوا عليه سبعمائة اسم وجاء. الفيروز آبادي أشار إلى هذه الحقيقة وهي حقيقة الترادف،
فألَّف كتاباً أسماه "الروض المألوف فيما له اسمان أو ثلاثة في لغة العرب إلى ألوف"، يعني هناك أشياء لها آلاف من الأسماء. وضربوا مثلاً بقصة الأسد الذي له نحو سبعمائة اسم، وقيل ألف. بعضهم أنكر وقال الأسد في لغة العرب هو الأسد. والبقية هذه إما أن تكون أسماء أشخاص كأن يكون هناك أسد معين اسمه كذا أو زهبر أو الأشاوس أو غير ذلك، أو أن تكون صفات للأسد، فكلمة "ناهد" مثلاً من أسماء الأسد.
إذاً فنحن أمام ظاهرة تسمى بظاهرة الترادف، والتي نشأت لأن جامعي اللغة العربية جمعوا لغات القبائل كلها على حد سواء. مع بعض توفيراً للوقت ومنعاً للتكرار، لغة العرب تُعد من مكونات العقل المسلم، ولذلك نرى المسلمين وقد خدموها خدمة كبيرة جداً. خدموها فوضعوا المعاجم، وهذه المعاجم تحصر الكلمات، حتى أنهم حصروا الحروف العربية فوجدوها ثمانية وعشرين حرفاً، ووجدوا الكلمة العربية مبناها ثلاثة أحوال، إذاً فسوف نكون من الثمانية والعشرين
حرفاً. شيء يعني حوالي خمس مائة مليون كلمة مثلا أو كذا إلى آخره بالتباديل والتوافيق نجدها أنه رقم كبير جدا ثم بعد ذلك رأيناهم قد وجدوا اللغة العربية لا تزيد في جذورها عن ثمانين ألف جذر وبقيت الخمس مائة مليون هذه كلها مهملة فقسموا الكلمة العربية إلى مستعمل ومهمل أي ثلاث حروف يمكن أن نبين منها ما المستعمل وما المهمل، قد تكون كلها مهملة وقد يكون بعضها مهملاً وبعضها مستعملاً. فلو أننا مثلاً كان عندنا (هرج)،
فأحد الاحتمالات أن أنتقي أي الحروف وكيف ترتيبها: هرج، أي هـ ر ج، ثم رهج، ثم جهر، ثم جره، هذه. هذه ليست مستعملة، لكن جهر وهجر ورهج وهرج كلها مستعملة والاحتمالان الأخيران لأن كل ثلاثة حروف يمكن أن نصنع منهم ست كلمات، فجره هذه غير مستعملة. حسناً، ورجه رجه، إذاً يكون
المستعمل خمسة وغير المستعمل واحد في هذه الكلمة. مثلاً وجدوا أن هناك ارتباطاً بين هذه الألفاظ. المكونة من الحروف بغض النظر عن ترتيبها، فما العلاقة بين الجهر والهجر وهاجر وجهر وبين رهج وبين هرج؟ الحركة تجد في كل هذه في حركة الهجرة خروج من المكان وانتقال وحركة إلى مكان آخر، والرهج تحرك النار وهي مشتعلة يميناً ويساراً من الرياح، والجهر تحرك الصوت وطبقات الصوت وطبقات الهواء. التي يسير
فيها الصوت، وهكذا وجدوا أو أوجدوا معنى ما بين كل الحروف التي تكونت منها العربية، وبينوا المهمل والمستعمل فيها. وأول من التفت إلى هذا كان الخليل بن أحمد في كتابه العين، ثم بعد ذلك جاء من بعده وساروا على منواله ونقحوا هذه المسألة في الثمانين ألف جذر لغة. يمتلك العرب ثمانين ألف جذر، ولكن الموجود منها في القرآن مائة ألف وثمان مائة جذر فقط، ألف وثمان مائة وعشرين جذراً، ألف وثمان مائة من ثمانين ألف جذر، أي لا تتعدى اثنين في المائة، اثنين وقليل في المائة. القرآن الكريم استعمل من
لغة العرب اثنين في المائة فقط، استعمل اثنين في المائة. فقط من لغة العرب والقرآن الكريم استُعمِل هذا. السنة استُعملت من لغة العرب ثلاثة آلاف جذر، يعني أربعة في المائة من لغة العرب تقريباً. إذاً، بقية اللغة أين هي؟ تخدم هذا المعنى، لكن اللغة المقدسة هي ثلاثة آلاف جذر فقط، والبقية هي لغة قابلة للتطوير وقابلة للدخيل وقابلة للاستعمال. وقابلة لأن تستوعب كل جهة. اللغة العربية ومفهومها ودلالات ألفاظها وخصائصها هي من مكونات العقل المسلم، حيث أنه يفهم بها المصادر، ويدعو بها الناس، ويفهم بها التراث، وهي
مكون أساسي من مكونات العقل. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.