مكونات العقل المسلم | 14 | الكلي والجزئي | أ.د علي جمعة

مكونات العقل المسلم | 14 | الكلي والجزئي | أ.د علي جمعة - التفكير المستقيم, مكونات العقل المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم، نرى أن العقل المسلم اهتم اهتماماً بليغاً وذكر ذلك في كتاباته في الحكمة العالية، وذكر ذلك في كتاباته في المنطق، وذكر ذلك في كتاباته في أصول الفقه، وذكر ذلك في... كتاباته في الفقه وفي علم الكلام ذكر في كل ذلك واهتم العلماء بإبراز مكوّن من مكونات العقل المسلم وهو إدراكه للجزئي وللكلي. وعندنا ثلاثة ألفاظ نريد أن نحررها من أجل الفهم العميق لمكون من
أهم مكونات العقل المسلم: معنا لفظ الكل، ثم لفظ الكلي، ثم لفظ الكلية، وفي مقابل ذلك. يكون معنا لفظ الجزء ولفظ الجزئي ولفظ الجزئية فينبغي أن نفرق بين هذه المعاني الثلاثة: الكل والكلية الكل هو ما له أجزاء، والجزء ما تركب منه ومن غيره كل. إذن
التي نجدها في المسجد مكونة من السمر، فالسمر هذا جزء والحصيرة بحالها (كل). يقال: السجادة مكونة من خيوط، هذا هو جزء والسجادة ككل يقل، فالكل والجزء هو الكل، والبعض يعني بعض الشيء وكلي شيء. أما الكلي فهو ما لا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه، هكذا عرفوه. وهذا حتى نتخيله ونتخيل معه الجزئي، فإننا نتخيل
كلمة إنسان ومفهومها، وإبراهيم كشخص من شخوص الإنسان إنسان، هذا كله. لأنك إذا أردت أن تستحضر معناه في ذهنك فإنك ستستحضر معنى ذلك المخلوق الذي هو من ابن آدم الذي ترى أفراده في العالم وهو عاقل يمشي على رجلين، ولذلك يمكن أن تطلق عليه بأنه صاحب حياة، حيوان، وأنه مفكر عاقل له عقل، وعقل الإنسان غير عقل
غيره من البهائم مثلاً. القرد تراه يريد أن يصل إلى شيء، إلى موزة مثلاً، فيلتفت حوله فيجد العصا فيستعمل هذه العصا للوصول إلى ما يريد. أما الإنسان فقبل خروجه من بيته يأخذ عصا معه. هذا هو الفرق بين هذا الإنسان وهذا القرد. الإنسان يرتب، الإنسان يفكر، الإنسان يعرف العاقبة، يعرف شيئاً ويُحضِّر شيئاً لغده، القرد لا يُحضر شيئاً لغده، يُحضر شيئاً لواقعه الآن. على كل حال، الإنسان حيوان ناطق، و"ناطق" هنا معناها مفكر؛
لأن النطق والفكر وجهان لعملة واحدة كما ذكرنا مراراً. بل كل لا يمنع نفسي تصور معناه الإنسان، لو تصورنا معناه في أذهاننا، فإنني لو تصورت حتى أستحضر الإنسان إبراهيم أو حسن. أو حسين أو علي أو أي إنسان كان أو زينب أو فاطمة فإنني بهذا الاستحضار جائز، كله جائز، لا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه. لما تصورت الإنسان لم يكن قاصراً على فرد معين محدداً في فرد معين، بل يجوز أن يكون له أفراد كثيرة حتى لو لم... يكن له أفراد كثيرة، إنما
يجوز أن يوجد منه أفراد كثيرة. نفرض جبل زئبق، لا يوجد جبل في العالم مكون من الزئبق، تخيلته هو كلي لأنه يمكن أن أتخيل عشرة جبال زئبق، فإذن الكلي الكلي لا تمنع نفسي تصور معناه من وقوع الاشتراك في الوجود، لكن إبراهيم الذي... أنا أعرف الذي يعني له أب وله أم وله زوجة وله ابن وهو جارنا هذا الإبراهيم. هذا محدد معين مشخص فكل ذاك ليس هناك له تكرار، هو شخص واحد. هذا هو الجزئي. هو ما يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فإذا أنا تصورت إبراهيم فلا يمكن أن أتصور شخصاً آخر غير إبراهيم الكلي كالإنسان
له أفراد سواء وُجِدَ الأفراد في الخارج أم لا. أما الجزئي فليس هناك إلا نسخة واحدة لا تتكرر ولا تتبدل ولا تتغير. الكلية والجزئية عندما يكون حكمنا على الجميع فهذه هي الكلية، وعندما يكون حكمنا على المجموع فهذا هو الكل، فالكل هو حكمك على المجموع، ليس ذا وقوع،
أما الكلية فحكمنا على الجميع. ما الفرق بين المجموع والجميع؟ يعني افترض أنك طلبت من فصل في المدرسة أن يدخل مسابقة أو مباراة لأوائل الطلاب، فالفصل انتُقي منه خمسة وقاموا بالواجب وفاز هذا الفصل وأخذ الجائزة، فهذا حكمك على المجموع، فتقول الفصل الفلاني حصل على المركز ولم يشارك كل شخص في فريق كرة القدم، يلعب منه بعضهم ويفوز، فيقول إن الفريق هذا المكون من عشرين أو ثلاثين لاعباً قد فاز، بالرغم من أن أحد عشر لاعباً فقط
هم الذين خاضوا المباراة. فهذا هو حكمك على المجموع عندما يطالب الناس بصلاة الجنازة، فصلى الحاضرون الجنازة على الميت، عليه المسلمون هو ليس كل المسلمين في الأرض صلّوا على الجنازة، بل هو من حضر في هذا المسجد، لكن هذا هو حكمنا على المجموع، ننسب هذا إلى المسلمين جميعاً. لكن الحكم على الجميع مثل صلاة الفريضة، لا يصح أن ثلاثة منا يصلوا والباقي من المسلمين يُعتبرون قد صلّوا أبداً، فهو كل شخص يجب أن يصلي، كذلك لو قلنا للفصل غداً سيكون هناك
امتحان، فكل واحد سوف يمتحن، ولا يصح في هذا المجال أن نقصر الامتحان على مجموعة مثل أوائل الطلبة ونقول إن هذا الفصل قد نجح، بل إن الحكم على الجميع والحكم على المجموعة، فالحكم على الكل هو حكم على المجموع، والكلية هو حكم على الجميع من هذا التفكير ومن هذا التفريق ومن هذه النظرة إلى الكل والكلي والكلية بُنيت مواقف وبُنيت أحكام يتم بها نوع من أنواع الفهم العميق للكتاب والسُّنَّة، يتم بها نوع من أنواع الفهم العميق للغة، يتم بها نوع من أنواع الفهم
العميق في إدراك الواقع، ويتم بها نوع من أنواع الفهم العميق في تقويم الأفكار، ولذلك قضية الكلي والجزئي أو تقسيم المسائل إلى كل وكلي وكلية وجزء وجزئي. وجزئية هي من مكونات العقل المسلم التي ينبني عليها ويفهم بها أمور كثيرة. من هنا رأينا قضية فرض الكفاية وفرض العين. فرض الكفاية إذا قام به بعضهم بما يسد مراد الشارع منه كفى، وفرض العين مكلِّف
به كل أحد. يبقى فرض العين من قبيل الكلية وفرض الكفاية من قبيل الكل. هناك أيضاً سنن كفاية مثل رد السلام، وتشميت العاطس، والأذان، والإقامة، والأضحية من أهل بيت متعددين. أمثال هذه الأشياء هي سنة كفاية، إذا قام بها بعضهم سقط الواجب عن الآخرين. هذا من قبيل النقل لأن النظر فيه إلى المجموع فرض كفاية، والنظر فيه إلى الفعل فرض عين. النظرُ فيهِ إلى الفاعلِ، ولذلكَ فُرِضَ الفاعلُ هذا فرضَ العينِ. هذا مردُّهُ إلى الكُليّةِ، أمّا
فرضُ الكفايةِ فمردُّهُ إلى الكلِّ، إلى المجموعِ. وهكذا بنى المسلمُ بعقليتِهِ كيفيةَ الفهمِ والتعاملِ، وينبغي علينا أن نغوصَ في هذهِ المكوناتِ للعقلِ المسلمِ حتى نرى ونفهمَ كيفَ سلوكُهُ وكيفَ سيكونُ سلوكُهُ إذا ما واجه الحياةَ. في أي مجال كان فرض الكفاية وفرض العين، هذا من الأمور المهمة ولها كلام طويل. يتعلق الأمر أن بعض هذه السنن تتحول عند كلام الأمة إلى فرض آخر مخاطب به، يعني قد تكون المسألة سنة في حق الإنسان
الفرد، ثم تتحول إلى فرض في حق الأمة لأن النظر فيها. إلى وجود الفعل، وذلك مثل الأذان، هو سنة على الفرد، لكن بالنسبة للأمة لا بد من وجود الأذان واستمرار الأذان. مثل النسل، سنة أن الإنسان يتزوج وسنة أن الإنسان ينجب، لكن بالنسبة للأمة هو واجب، تحول من السنة إلى الواجب. لماذا؟ لأننا نتحول هنا من الكلية إلى الكل باعتبار مراعاة الفاعل والفعل كلام عميق للغاية ينبغي على الفقيه أن يلتفت إليه. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.