مكونات العقل المسلم | 15 | مراعاة المقاصد | أ.د علي جمعة

مكونات العقل المسلم | 15 | مراعاة المقاصد | أ.د علي جمعة - التفكير المستقيم, مكونات العقل المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مكونات العقل المسلم من ضمن هذه المكونات التي راعاها المسلمون وحافظوا عليها واهتموا بها وألفوا فيها ودرسوها ودرَّسوها ما يُسمى بمراعاة المقاصد الشرعية. بحث المسلمون في كل الشرائع خاصةً في شريعة الإسلام، بحثوا عن مقصد الشرع هو ما يقصده الشارع ويريده من المكلفين، ووجدوا أن هناك مقاصد عليا أرادها الشرع. أراد منا عبادة الله، قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون". فأصبح هذا من مقاصد الإله في خلق الكون، خلق الكون لهدف معين وغاية معينة. قال تعالى: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها". أي طلب منكم عمارها، إذا طلب منا العبادة وطلب منا العمارة، إني جاعل في الخليفة. طلب منا أن نزكي أنفسنا وأمرنا بالأخلاق الكريمة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بالأخلاق اهتماماً بليغاً حتى أننا. رأينا أنه يكرم ابنة حاتم الطائي وقال لها إن أباك كان
يحب مكارم الأخلاق. فدمعت البنت فقالت: أهو في الجنة يا رسول الله؟ قال: هو في النار، إنما كان يفعل ذلك لسمعة يتسمعها. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم ابنة حاتم من أجل كرم أبيها الكافر. قضية النار بيد الله لا علاقة لنا بها وإنما نحن هنا في الدنيا نحب الأخلاق الكريمة التي منها الكرم، نحب هذه الأخلاق العظيمة التي منها الحب والرحمة، "إنما أنا رحمة مهداة" و"إنك لعلى خلق عظيم"، إلى آخر ما هنالك من مقصد تزكية النفس، تخليتها من كل قبيح وتحليتها بكل صحيح حتى يتجلى الله. سبحانه وتعالى في قلب المؤمن الذي هو محل نظر الله، إن الله لا ينظر
إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم، فالقلب محل نظر الله سبحانه وتعالى. إذا رأينا مقاصد الخالق، فما هي مقاصد المكلف؟ بالتشريع والاستقراء والتتبع وجدنا أن تلك المقاصد هي حفظ النفس ثم حفظ العقل. ثم حفظ الدين ثم حفظ كرامة الإنسان ثم حفظ ملك الإنسان. حفظ النفس رتّبناه أولاً بالرغم من أن الإمام الشاطبي رتّبه بعد ذلك، فيقول هو حفظ الدين أول شيء،
لأنه في الحقيقة رأينا في الحفاظ على هذه المقاصد نوعاً من أنواع الالتزام بالنظام العام الذي أقرّه كل العقلاء عبر التاريخ يومنا هذا والنظام العام يجعل ليس المسلم فقط هو الذي يلتزم بتلك المقاصد، بل إن العالمين يجب أن يلتزموا بتلك المقاصد. ولذلك فإذا ما جئنا في دولتنا وقلنا إنها دولة إسلامية، فإن النظام العام الذي يحكم هذه الدولة الإسلامية يندرج تحته المسلم وغير المسلم، ولا يجد غير المسلم حينئذ إذا... من فهم أن هذه المقاصد التي هي مظلة الإنسانية كلها، لا يجد غضاضة في أن يكون
مندرجاً تحت الحضارة الإسلامية. الحضارة الإسلامية قبلت تحتها المسلمين وغير المسلمين، قبلت تحتها المسيحيين واليهود والمجوس وأصحاب الكتب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". لماذا قبل الإسلام؟ أن يكون تحت رعايته أو تحت مواطنته أنواع مختلفة من البشر، فلما دخل النبي المدينة وسيطر عليها وأصبح حاكمها، أنشأ معاهدة بينه وبين اليهود في صحيفة المدينة. إذاً هو يؤمن هذا الإسلام يؤمن بالتعددية، "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، "لكم دينكم ولي دين"، "لا إكراه في الدين قد". تبيَّنَ القول من الغي، لستَ عليهم بمسيطر، إلى آخر ما هنالك، ما على الرسول إلا
البلاغ. ليس هناك إكراه، ولكن يُقبَل بالتعددية. لماذا؟ لأن السقف هو حضارة الإسلام وليس هو دين الإسلام الذي هو إقامة شعيرة الصلاة والصيام. لا نُكرِه الناس على هذا، لا إكراه في الدين، ولكن حفظ النفس. حفظ العقل وحفظ الدين وحفظ كرامة الإنسان وحفظ ملك الإنسان هي التي تمثل المقاصد الشرعية من ناحية للمكلفين، وأيضاً من ناحية أخرى هي تمثل النظام العام، وأيضاً تمثل من ناحية ثالثة حضارة الإسلام التي يندرج تحتها التعدد من الأجناس ومن الأديان ومن المذاهب، وهكذا فكان لزاماً علينا أن نرتب المقاصد. ترتيباً آخر، أي أن
نُظهر هذا المعنى وهذا الترتيب في حفظ النفس، إذ إن الله أمرنا بحفظ النفس حتى تكون هي البداية، لأنه لو هلكت النفس فكيف يتوجه إليها الخطاب بالعبادة وبالعمارة وبتزكية النفس إذا كانت قد هلكت ودُمرت وذهبت؟ وحفظ النفس مقصد من مقاصد الشريعة حتى ندعوه بعد ذلك يصلح أو يفسد، هذا له شأن آخر، لكن لا بد من حفظ النفس. حرّم الله سبحانه وتعالى القتل والإجهاد والإفساد في الأرض بغير الحق. حفظ العقل بعد أن نحفظ النفس، لا بد علينا أن نحفظ العقل لأن العقل هو مناط التكليف، وليس هناك خطاب إلا إذا كان العقل واعياً فحرّم. الله علينا الخمر وحرم كذا لكن أيضاً لا بد علينا
من أن نعلّم هذا العقل ونعرفه كيف يفهم وكيف يدرك الشريعة ويدرك الواقع ويعمر الأرض ويزكي النفس ويستعمل هذا العقل في مكانه. العقل مهم الحفاظ عليه حتى يأتيه التكليف لأنه مناط التكليف. القضية الثالثة بعد ذلك حفظ الدين كدين فلا. لا بد علينا أن نحترم الدين وأن نحترم هذا الشيء الذي خلقه الله لنا كمنهاج وشريعة لنا. إذا حُفظ الدين، فهنا هو حفظ الدين على الإنسانية، وهذا هو المعنى الحضاري. أما بالنسبة للمسلمين فحفظ دينهم معناه حفظ الإسلام الذي يرون أنه هو دين الحق، وأنه لا بد
منه، وهو سبب أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة إن الدين عند الله الإسلام. صحيح أن أتباع الأديان يعتقدون أن دينهم هو الذي سيخلصهم أمام الله سبحانه وتعالى. لكم دينكم ولي دين. كل شخص في يوم القيامة سينبئنا بما كنا فيه نختلف وبما كنا نعمل. موعدنا في هذا يوم القيامة، لكن الذي يجتمع... عليه البشر أنه ينبغي أن يكون في النظام العام احترام لحرية العقيدة التي نُعبِّر عنها بالدين. القضية الرابعة هي قضية الكرامة الإنسانية، فممنوع إطلاقاً قضية التعذيب، تعذيب الإنسان ممنوع إطلاقاً، وقضية إهانة الإنسان إلى آخره.
القضية التي بعد ذلك هي مُلك الإنسان، والمُلك هنا محترم ومعتبر وينبغي علينا أن نحترمه. ملك الإنسان ولا نغتصب منه ملكه أبداً، وهذا جزء لا يتجزأ من كل شريعة أرسلها الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يتفق عليه العقلاء أيضاً عبر التاريخ، وأي نظم شمولية رفضت هذا المعنى فإنها لم تستمر واندثرت ولم تصلح في الأرض ولم يكن لها أي مقام محمود عند الله سبحانه وتعالى. وعند الناس فإن مراعاة المقاصد الشرعية هي عبارة عن مكون أساسي من مكونات العقل المسلم. إلى
لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    مكونات العقل المسلم | 15 | مراعاة المقاصد | أ.د علي جمعة | نور الدين والدنيا