مكونات العقل المسلم | 16 | مراعاة المصلحة | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مكونات العقل المسلم، وكما رأينا أن العقل المسلم من مكوناته مراعاة المقاصد وهي حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ الدين وحفظ كرامة الإنسان وحفظ ملك الإنسان، فإنه أيضاً يراعي المصلحة، والمصلحة كالمنفعة وزناً ومعنى. المنفعة هي جلب اللذات ووسائلها ودفع الآلام
ووسائلها. اللذة والألم، ولذلك نرى أن اللذة والألم أخذت مجالاً واسعاً في الفلسفة لأنها هي حقيقة المصلحة. عندما نتكلم عن المصلحة نجد أن منها ما هو عاجل الآن وما هو آجل، ومنها ما هو عام يعم جميع الناس وما هو خاص يخص. فرداً بعينه، ومنها ما هو قطعي وما هو ظني، ومنها ما هو كلي
وما هو جزئي. ولذلك فإننا نرى المصلحة وهي نسبية، ونرى أيضاً صفة أخرى من صفات المصلحة أنها ليست خالصة. يقول الإمام القرافي: حتى إنك إذا أردت أن تنضج اللحم أصابك شيء من الأذى من النار، ولذلك فليست هناك لذة تامة ومصلحة كاملة، بل إن المصلحة دائماً مشوبة بشيء من المفسدة. من الذي يقول أن نفعل هذا الفعل لما فيه من المصلحة الراجحة ونتحمل ما فيه من الآلام؟ من الذي يقول
أن ألم هذا الأمر في عاجله أو آجله أكبر من مصلحته؟ ولذلك لا بد علينا أن نبتعد. عن هذا الفعل إذا تركنا هذا للإنسان عند المسلمين فإنهم يختلفون على حد القائل أن فوائد قوم عند قوم مصائبه ومصائب قوم عند قوم فوائده فالمسألة نسبية ولكن الذي يحدد المصلحة هو الله سبحانه وتعالى فإذا حدد الله سبحانه وتعالى المصلحة ودعا إليها فالقضية الأخرى بعد ما عرفنا أن المصلحة نسبية وأنها ليست نقية كل النقاء وأنها الذي يحدده هو الله. رأينا
أن من المصالح ما هو قد حدده الشرع فهي مصالح معتبرة، وهناك ما قد ألغاه الشرع فهي مصالح لكنها ملغاة، وهناك مصالح لم يتعرض لها الشرع بالاعتبار ولا بالإلغاء وهي المصالح المرسلة. والمصالح المرسلة يقول بها كل الأئمة. وليس الإمام مالك فقط، إذاً فعلينا أن نفهم هذا الوضع للمصلحة، وهو أن المصلحة هي التي يحددها الله سبحانه وتعالى. لماذا؟ أولاً: لأنه هو الذي خلق الخلق. ثانياً: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. ثالثاً: أن الأمر ليس فقط هو الحياة الدنيا، بل إنه متصل بيوم آخر هو.
يوم القيامة الذي رأيناه أيضاً مكوناً من مكونات العقل المسلم، ولذلك فإن الذي نفعله هنا في الدنيا قد يكون مرتبطاً ارتباطاً سلبياً بما سيكون يوم القيامة. ولذلك ينهانا الله عن أمور قد نرى فيها منفعة أو لذة أو شهوة، ولكنه سبحانه وتعالى يبعدنا عنها، مثل الزنا والعياذ بالله تعالى قبحه. الله سبحانه وتعالى قال إنه كان فاحشة وساء سبيلاً. لماذا رتّب الله سبحانه وتعالى عليه العقاب في الدنيا ورتّب عليه المؤاخذة يوم القيامة؟ ولذلك يجب علينا أن نبتعد عنه ابتعاداً تاماً، حتى لو أنه في ظاهره يحقق الشهوات ويقضي الحاجات، إلا أنه في حقيقته ليس
كذلك، بل هو مرتبط بعكس مُرَادُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي عِمَارَةِ الكَوْنِ، وَبِعَكْسِ مُرَادِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي التَّكْلِيفِ، وَبِعَكْسِ مُرَادِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُرَادِ الاجْتِمَاعِ البَشَرِيِّ وَاحْتِيَاجِ الإِنْسَانِ إِلَى أَنْ يَعِيشَ فِي مُجْتَمَعٍ بَشَرِيٍّ عَلَى كَلِمَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، المَصْلَحَةُ الَّتِي يُحَدِّدُهَا اللهُ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ وَكَانَ أَحَدُ المُكَوِّنَاتِ العَقْلِيَّةِ أَنَّ الحَاكِمَ. هو الله سبحانه وتعالى لم يقل أن الحاكم هو العقل، وليس أحد من المسلمين، لا المعتزلة ولا أهل السنة ولا الشيعة ولا غيرهم من فرق المسلمين، من كل أهل القبلة الذين توجهوا بصلاتهم إلى الكعبة المشرفة، وصاموا شهر رمضان، واتحدت كلمتهم على وجوب الزكاة ووجوب الحج
إلى بيت الله الحرام، قَبْلَ ذَلِكَ كُلُّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّ الحُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. فَالحَاكِمُ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَيْسَ العَقْلَ، وَلَيْسَ أَيْضًا البَرْلَمَانَ، وَلَيْسَ أَيْضًا الدِّكْتَاتُورَ أَوِ الزَّعِيمَ، وَلَيْسَ أَيْضًا الشَّعْبَ، بَلْ إِنَّ اللهَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ الأَفْعَالَ، وَمَعْنَى تَحْسِينِ وَتَقْبِيحِ الأَفْعَالِ أَنَّ اللهَ... سبحانه وتعالى يرتب عليها الثواب والعقاب في الآخرة فيقول من فعل كذا بصفة كذا فله الثواب ومن فعل كذا بصفة كذا فعليه العقاب. ترتيب
الثواب والعقاب هو من فعل الله وحده لا مدخل للعقل فيه، إنما العقل يمكن أن يحسن ويقبح الفعل من ناحية الطبيعة فيقول الرائحة الطيبة طيبة والرائحة. الكريهة ننفر منها، ويقول مثلاً وهو يحسن ويقبح الأشياء والأفعال أيضاً أن الصدق طيب وأمر يقبله الناس، والكذب أمر رديء، وشهادة الزور خساسة. قد يقول هكذا، ولكن ليس المقصود بالتحسين والتقبيح ما هو وصف له في الدنيا بالمدح والقدح أو في طبيعته، ولا كذلك وصف له بالمدح والقدح في فعله. في الناس ولكن المقصود هو ترتب الثواب والعقاب
عليه يوم القيامة وهذا هو الذي هو بيد الله وهذا هو الذي نقول فيه أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى وليس هناك حاكم سواه لا حاكم إلا الله وهذا معنى لا إله إلا الله الحاكمية هذه لله وحده جعلت هناك هوية الإسلام أو المجمع عليه لا يستطيع المسلمون أن يخالفوا، لا يستطيع البرلمان أن يجتمع فيبيح الشذوذ الجنسي، لا يستطيع البرلمان أن يجتمع فيبيح الزنا والعياذ بالله تعالى، أو يهدم عمود النسب في الزواج فيجيز للإنسان أن يتزوج زوجة أبيه مثلاً من قبله، وربنا قد وصفها أنها كانت فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً. لا يستطيع في يوم
من الأيام هذا البرلمان للمسلمين أن يغيّر عمود النسب فيجيز للإنسان أن يتزوج أمه أو أخته أو عمته أو خالته أو أن يجيز الجمع بين زوجتين كل واحدة منهما أخت للأخرى. لا يمكن أن يفعل ذلك لأن الحكم إلا لله والحاكم. هو الله وهذا متفق عليه بين المسلمين. كثير من الناس عندما يقرؤون أن المعتزلة تُعمِل عقلها يظنون أنه يُقال إن المعتزلة يقولون بأن العقل هو الحاكم. أبداً، المعتزلة وأهل السنة وكل طوائف المسلمين كلهم يقولون إن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى. إذاً
الذي يحدد المصلحة وبناءً عليه يبني التحسين. والتقبيح في الفعل والرد، وحيث إنها منها عاجلة ومنها آجلة، ومنها عامة ومنها خاصة، ومنها كلية ومنها جزئية إلى آخره. وحيث إنها أيضًا نسبية تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأماكن والأحوال. وحيث إنها أيضًا تشتمل في ذاتها على منفعة ومضرة، فلا تقع مصلحة خالصة أبدًا، حتى الولادة ترى المرأة سعيدة لتحصيل... الولد وهذا يوافق طبيعتها وهي تطلب هذا الولد ولكنها تعاين الموت وهي تحمله وهي تضعه والألم
هنا دخل مع فرحة السعادة بالولد هكذا هي المصلحة دائما تتشابك مع مجموعة من الآلام ولم يجعل الله سبحانه وتعالى لذة خالصة أبدا ولا يمكن للبشر أن يقوموا بذلك بناء على فلسفة اللذة والقلب وبناءً على فلسفة المصلحة، وبناءً على الإيمان بأن الشرع الشريف يهدي للتي هي أقوم، وبناءً على أن الله لطيف بعباده وأنه {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}، بناءً على كل ذلك كانت مراعاة المصلحة جزءاً لا يتجزأ من مكونات العقل المسلم. إلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم. ورحمة الله وبركاته