مكونات العقل المسلم | 17 | المقاصد | أ.د علي جمعة

مكونات العقل المسلم | 17 | المقاصد | أ.د علي جمعة - التفكير المستقيم, مكونات العقل المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. بذل الفقهاء المسلمون وهم يبحثون عن منهج الله سبحانه وتعالى في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم جهداً كبيراً وهم يستخلصون المنهج المبثوث بالشريعة كسريان الماء في الورد، وجلسوا السنين الطوال. يحاولون استنباط ما أسموه بالقواعد الكلية الفقهية الكبرى، ورأينا أن هذه القواعد هي جزء لا يتجزأ من عقلية المسلم. هذه
القواعد تقول أولاً: الأمور بمقاصدها، أي أن الإنسان لا بد له من أن يخلص النية لله رب العالمين، وأن يحرر مقصده، وأن البشر جميعاً لا بد أن يتوجهوا بأعمالهم إلى... الله وذلك أن الله لاقن وأن هذه الحياة الدنيا زائلة وأن الدنيا تحتاج لعمارتها إلى التراكم وحتى يستطيع الإنسان أن يراكم عبر العصور شيئاً فشيئاً فإنه يجب أن يكون ذلك لله وبالله لأنه إذا خلي الإنسان مع نفسه
فإنه يريد أن يفعل لنفسه فقط ولمصلحته فقط دون مصلحة أبنائه وأحفاده وأحفاد أحفاده ممن لم يرهم، فطر الله الإنسان على هذا الشأن من ناحية، وأمره شرعاً بهذا التراكم، وأمره شرعاً بأن يجعل شيئاً لله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". وكان هذا الحديث هو العمدة لاستخلاص هذه القاعدة التي نراها وهي مبثوثة في أكثر من سبعين بابًا من أبواب الفقه الإسلامي "الأمور بمقاصدها" "الأعمال بالنيات"، ونرى الإمام البخاري وقد صدّرها في صدر صحيحه،
ونرى الإمام النووي وقد اختار الأحاديث الأربعين التي بُنِيَ عليها الإسلام أو قيل فيها إنها قد بُنِيَ عليها الإسلام، يجعل "إنما الأعمال بالنيات" أول حديث في هذا المقام، ونرى السيوطي. في الأشباه والنظائر وهو يقول إن هذا الحديث يدخل في أكثر من سبعين بابًا من أبواب الفقه، ونرى الفضيل بن عياض وهو يقول: لا يقبل الله العمل إلا بالإخلاص والصواب، أما الإخلاص فإنما الأعمال بالنيات، وأما الصواب فمن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، فينبغي أن يكون. العمل حتى يقبله الله سبحانه وتعالى مخلص النية وأن يكون على نمط ما أرشدنا إليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وليس خارجاً عن ذلك. الأمور بمقاصدها قاعدة كبرى لكنها مع ذلك هي واحدة من الخمس الكبار. القاعدة الثانية: الضرر يُزال، فمتتبع الشريعة يرى أنها تزيل كل ضرر وكما أنها لا تقبل أيضاً أن يوقع الإنسان الضرر بغيره، فقد أثابت كل من يزيل الضرر وعاقبت كل من يوقع الضرر، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، ويقول: "الحياء بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن طريق الناس"، إزالة الضرر، فما بالك بمن يضر
ويوقع الأذى في طريق الناس، قال: "اتقوا الملاعن الثلاثة". إذاً هذه مواطن أمرنا بتنزيهها ونظافتها حتى لا يلعننا الله ولا يلعننا الناس، حتى إن الإمام النووي يقول: "ومقتضى لفظ الحديث أن ذلك حرام" لأن كثيراً من الناس قالوا أن التلويث المائي الراكد أو الظل الناس أو طريق الناس بالنجاسات. أو بالأذية هو يعني مكروه لكن الإمام النووي يقول هو حرام لأن ورد فيه لعن واللعن هذا قد يكون لعن الناس وقد يكون لعن الله سبحانه وتعالى وكلاهما يفر منه المؤمن. إذاً الضرر يزال، قاعدة ثانية. القاعدة الثالثة:
المشقة تجلب التيسير. قال تعالى: فإن مع العسر يسراً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يُغلب عُسرٌ يُسرين، لأن العُسر تكرر ولكن تكرر معه اليُسران. رأينا الشريعة السمحاء وهي تفتح بابها بكل يُسر، فما خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وسُميت بالحنيفية السمحاء. قاعدة رابعة وهي اليقين لا يزال بالشك، ولذلك رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ويقول إذا أحس أحدكم في صلاته
بأنه قد خرج منه شيء فلا ينصرفن من صلاته حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، يعني يصل إلى مرحلة اليقين، حيث إن الشك ليس بقادر في عقل المسلم وفي مكوناته، ومبثوث ذلك في كل فروع الشريعة، واستنبط ذلك العلماء الفقهاء من مجمل الشريعة. ومن كل فرع فيها فإنهم استنبطوا بأن اليقين عند الله وفي مكون عقل المسلم لا يزول بالشك. إذاً هذه نفس قوية لأن الشك لا يتلاعب بها، ولذلك نرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص
على ما". ينفعك واستعن بالله ولا تقل إذا أصابك شيء لو كنت أفعل لكان كذا وكذا بل قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان. توكل على الله ثقة بالله تسليم ورضا بأمر الله سبحانه وتعالى. فتح صفحة جديدة استمرار في العمل قوة في الإيمان الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم علامة الخيرية عند الله سبحانه وتعالى إذا اليقين لا يزال بالشك، يحدث نفسية قوية لا تلتفت إلى الشهي. نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسواس في الوضوء وفي الصلاة وفي سائر أعمالنا أيضًا.
العادة محكمة، قال تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن. خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. تأسست منها ومن غيرها وفي مجمل الشريعة وفي كل فروعها أن العرف معتبر وأن المؤمن لا يخالف الناس في دائرة المباح وأن المؤمن يراعي أوضاع الناس الاجتماعية والعرفية ولذلك فإن العادة محكمة، ولذلك نرى ابن مسعود يقول ما رآه المسلمون حسنا فهو.
عند الله حسن ونرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور". أمرنا أن نأخذ بأعراف وتصرفات وأفعال بل وأحكام الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، والمسلمون أسموا عمر بن عبد العزيز بالخليفة الراشد الخامس، وعمر مات في... سنة مائة وواحد إذا فهذا معناه أن كل عرف صحيح هو معتبر في الشريعة، وهكذا عقل المسلم. جمع أحدهم هذه الخمسة في أبيات نسبها
للإمام الشافعي، ولكن نسب هذه القواعد لمذهب الإمام الشافعي، ولكن في الحقيقة هي موجودة في كل المذاهب: "ضرر يزال، وعادة قد حكمت، وكذا المشقة تجلب التيسير". والشك لا ترفع به متيقنًا وخلوص نية إن أردت أجور خمس محررة قواعد مذهب للشافعي بها تكون بصيرة. والحقيقة أن هذه القواعد موجودة في كل مذهب، ولذلك رأينا أن مَن ألّف في تلك القواعد كابن السبكي وابن الوكيل ثم السيوطي، أخذ كلامهم ابن نجيم ورأيناه يختصر أشباه السيوطي في كتابه. الأشباه والنظائر أيضاً، ويأتي ابن عابدين الحنفي
وابن نجيم كان حنفياً أيضاً، فيتكلم على هذه القواعد التي أقرها ابن نجيم آخذاً من الإمام السيوطي الشافعي. وهكذا نرى أن هذه القواعد إنما هي قواعد لكل المذاهب. من المستحسن، بل هو الأحسن، أن نقف عند كل واحدة من هذه الخمس حتى نرى. كيف كان يفكر العلماء المسلمون، إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.