مكونات العقل المسلم | 18 | الأمور بمقاصدها | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم تكلمنا بصورة إجمالية في حلقة سابقة عن القواعد الخمس الكبرى للفقه الإسلامي، هذه القواعد التي لُخِّصت في قول الناظم: ضرر يزال، عادة قد حكمت، وكذا المشقة تجلب التيسير، والشك لا. ترفع به متيقناً وبخلوص نية إن أردت أجوره، وعبّرنا عنها بأنها الأمور بمقاصدها، الضرر يُزال، المشقة تجلب التيسير، العادة محكمة، وهكذا من صياغات تكلم
عنها الفقهاء الخمسة الكبار. هذه تفرعت إلى نحو خمسين قاعدة فقهية من هذه الخمس الكبار، والقواعد الفقهية الخمسون تفرع كل واحدة منها إلى قواعد أقل منها. في التفريع وصلوا إلى مائتي قاعدة وهذه القواعد شاملة لكل الأبواب لكتاب الصلاة والزكاة والصيام والبيع والنكاح والجهاد والقضاء والشهادات والعلاقات الدولية إلى آخره، ثم رأينا أن كل باب قد اختص بقاعدة خاصة به هو، ولذلك يفرق العلماء بين القواعد
والضوابط، فالقاعدة أمر كلي يشتمل على أحكام جزئياته غالباً ولكن... الضابط أمر كلي نعم، وهو يشتمل على صور فرعية، يعني الضابط إنما يكون في مسألة معينة تحته صور كثيرة. ولكن القاعدة تحتها فروع كثيرة، بعضها من القاعدة، وبعضها مستثنى من القاعدة، وبعضها قد خرج عن مفهوم القاعدة لقاعدة أخرى، وهكذا. أول هذه القواعد "الأمور بمقاصدها"، ومبنى هذه القاعدة ومأخذها. قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإن مالكل امرئ ما نوى". والنية
أمر نراه في أكثر من سبعين باباً من أبواب الفقه، من هذه الأبواب كتاب الطهارة، فنرى النية وهي ركن من أركان الوضوء، فإذا أراد الإنسان أن يتوضأ لا بد عليه أن ينوي رفع الحدث، وهذه النية. تكون في أول العمل وأول الوضوء هو غسل الوجه، هذا أول الفروض، ولذلك فالنية هنا ينبغي أن تقترن في القلب، ومحل النية القلب مع غسل الوجه. نغسل أيدينا، نتمضمض، نستنشق، ولكن النية ينبغي أن تكون مع غسل الوجه. يجوز أن تكون من أول الوضوء ولكن تستصحب في القلب إلى غسل. الوجه النية
في الصلاة أول الصلاة تكبير الله أكبر، فعندما يلفظ اللسان الله أكبر ينبغي على القلب أن يكون مستحضراً للنية ماذا يصلي، أيصلي الفجر أو يصلي الظهر، أو أنه يصلي الفرض، أو أنه يصلي النفل، أو أنه يصلي سنة من السنن، أو أنه يصلي قضاءً عليه، أو أنه يصلي. أداء عليه، ولذلك ولأن الصلاة قد ترددت بين الفرض والنفل وبين الأداء والقضاء وبين السنة والنافلة، وهكذا احتاجت إلى نية تفرق بين كل هذه الصور. في الزكاة لا بد عليه
وهو يخرج المال أن ينوي أن هذه الزكاة. الحج لا بد عليه أن يفرق بين حج الفريضة وبين حج النافلة. بين العمرة وبين الحج وهكذا أبداً نرى أن الإنسان يحتاج إلى النية في مواقف كثيرة، منها العبادات ومنها المعاملات. النية نلجأ إليها في الطلاق مثلاً، فهناك ما يسمى بالألفاظ الصريحة وهناك ما يسمى بألفاظ الكناية، وألفاظ الكناية تحتاج إلى نية. النية في اللغة: القصد، وفي الشرع: قصد الشيء مقترناً بأول فعله. غالباً قُصِدَ
الشيء كالصلاة والوضوء والحج والعمرة مقترناً بأول فعله، ثم جئنا وقلنا "غالباً". لماذا غالباً؟ لماذا لا يكون دائماً؟ لأن الصوم يتعذر أن نبدأ فيه النية مع الخيط الأول للفجر، ولذلك فنحن نبدأه بالليل. وكان مشايخنا يعلموننا أن نقول: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق". عَرَّقَتْ العروق وثبت الأجر إن شاء الله. نويت صيام غد من رمضان ونحن في الإفطار لأن هذا محله الليل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يجمع النية بالليل فلا صيام له". فأنا الآن
نويت ولكن قبل الفجر، فيبقى إذا جئنا بقيد غالباً لأن في بعض الصور ومنها هذا. نجد أنها في بداية العمل متعذرة، ولذلك نقدمها قبل بداية العمل. النية لها ما يسمى بالأحكام السبعة: تعريف النية لغةً: القصد، وشرعاً: قصد الشيء مقترناً بأول فعله غالباً. والنية أيضاً لها محل، ومحلها القلب. والنية لها مقصود، ولا بد أن تكون خالصة لوجه الله تعالى.
والنية أيضاً لها حكم، وحكمها أنها... واجبة غالبًا، والنية لها زمن وزمنها أول الفعل غالبًا. وهكذا فإن النية لها تفصيل يعيشه المسلم في مكون عقله حتى يحرر الأمور بمقاصدها، وهي القاعدة الأولى من تلك القواعد الخمس: حقيقة، حكم، محل، زمن، كيفية، شرط، ومقصود حسن. هذه يسمونها الأحكام
السبعة للنية. حقيقة النية، حقيقة حكم النية تكلمنا عنه. زمن النية تكلمنا عنه، حقيقة حكم محل النية تكلمنا عنه، وزمن كيفية النية. وفي الكيفية يقولون: لا بد أن يكون العمل موافقاً للنية، فإذا نويت أن أصلي أربع ركعات فلا يجوز إذاً أن أصلي ركعتين، أو إذا نويت أن أصلي ركعتين لا يجوز أن أصلي أربعاً غالباً، لأنه في بعض الأحيان... اضطر اضطراراً إلى هذا مثل ما دخلت في صلاة الجمعة وأنا لا أعرف هل هم في السجدة الأخيرة أو أنهم في سجدة الركعة الأولى،
فأنوي الجمعة وأكتشف أن الإمام قد سلّم، فإذا كنا قد انتهينا من الركعتين فاتت عليّ الجمعة ولا بد أن أصلي بدلها ظهراً، فنويت الجمعة وصليت الظهر. لكن هذه حالة لا تتكرر، ولذلك قلنا غالباً. حقيقة حكم محل وزمن كيفية شرط، شرط النية الإسلام، فالنية لا تصح من الكافر، ولذلك الكافر ليس مخاطباً بفروع الشريعة. فلو توضأ وصلى وصام وحج وهو على كفره، لا يقبل الله منه هذا، وهذه الأعمال باطلة لغو، لماذا؟ لأن النية فقدت شرطها. وشرطها هو الإسلام، شرط النية أيضاً أن تصدر من العاقل، فليس
هناك نية للطفل غير المميز، وليس هناك نية للمجنون والمعتوه، وليس هناك نية للنائم. ولذلك من المسائل الطريفة الظريفة أن رجلاً وهو نائم طلق زوجته، لا يقع الطلاق. لماذا؟ لأنه افتقد النية لأنه نائم، والنائم غير مكلف، ولذلك افتقد [النية]. العقل الذي هو شرط من شروط التكليف وشرط من شروط النية أن يكون من مسلم، أن يكون من عاقل، وهكذا. فإذا هذا الذي تكلم بهذا وهو في النوم فإنه لا يقع طلاقه، لماذا؟ لأنه
افتقد شيئاً مهماً وهو العقل. أما الذي تعدى بالسكر فهذا له حكم آخر يقول عنه. الإمام الشافعي أن تعديه بالسكر أدخله في تحمل مسؤولية ما يفعل، فلو أنه باع بيته لأقررناه، ولو أنه طلق زوجته لاعتبرناه وطلقناه، ولكن ليس كل الأئمة توافق الإمام الشافعي على هذا المنحى، فإنهم يقولون أن العقل مطلوب في قضية النية، ولذلك فإن طلاق السكران وهذيان من كان تحت المخدر. وكلام النائم لا يعتد به مطلقاً. الأمور بمقاصدها من
مكونات عقل المسلم وهي تؤثر في سلوكياته، تؤثر في استنباط فقهه، تؤثر في فهمه للمصادر الشرعية، بل وفي سيره في الحياة. إلى لقاء آخر، استودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.