مكونات العقل المسلم | 19 | الضرر يزال | أ.د علي جمعة

مكونات العقل المسلم | 19 | الضرر يزال | أ.د علي جمعة - التفكير المستقيم, مكونات العقل المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم نقف عند القاعدة الثانية من القواعد الخمس الكبرى التي استنبطها الفقهاء من مجمل الشريعة ومن تتبعهم لمئات الفروع في الفقه الإسلامي المستنبط من المجتهدين العظام من الكتاب والسنة وهذه القواعد. كما قلنا الأمور بمقاصدها، والقاعدة الثانية الضرر يُزال، ومبنى هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". ومعنى الحديث أنه ينبغي ألا تضر نفسك وألا
توقع الضرر بغيرك. ومن هنا أمرنا الشرع بكل الوسائل وفي كل فروعه ألا نضر بالناس أجمعين، بمسلمهم وغير مسلمهم، حتى أن... تعدّى الأمر إلى عالم الحيوان حتى أنه تعدّى إلى عالم النبات بل إلى الجماد. نحن مأمورون بألا نوقع الضرر بشيء مما حولنا. عقيدة المسلم نبنيها كمكوّن عقلي أيضاً من مكونات العقل المسلم، أن هذا الكون الذي حولنا يسبح. قال تعالى: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون
تسبيحهم". فالمؤمن يرى نفسه متفاعلاً مع الكون ولذلك لا يؤذيه، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى سعداً وهو يستعمل ماءً كثيراً في الوضوء فقال له: "لا تُسرِف"، قال: "أفي الوضوء سرفٌ يا رسول الله؟"، قال: "ولو كنت على نهرٍ جارٍ". المسلم لا يؤذي شيئاً في الكون، ولذلك تراه وهو يحب الكائنات. ويشعر أنها تسبح ربها معه وأنها تسجد لله رب العالمين معه. هذا الشعور يؤيده كل
شيء أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اشتكى له الجمل في البستان أن صاحبه يجيعه وأنه يضربه وأنه يحمله ما لا طاقة له به، فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمر الشاب صاحب الجمل أن يخفف عنه وإلا يضربه، وأن يعامله معاملة حسنة وأن يطعمه. والنبي صلى الله عليه وسلم أزال ذَفَرة، يعني أزال دمعة من هذا الجمل ومسح خلف أذنه، مما يدل على أننا أُمرنا بهذه الرحمة. رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "دخلت امرأة النار في هرة". الرحمُ حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقابل يقول: "ودخلت امرأة الجنة في كلبٍ وجدته عطشان فسقته، فغفر الله لها فأدخلها الجنة". إذًا، أُمِرنا ألا نوقع الضرر بأحد، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقس المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا شأن القاتل، فما بال المقتول؟ قال: كان حريصاً على أن يقتل صاحبه. النبي صلى الله عليه
وسلم، كما ورد في القرآن، جعل لنا من القصاص حياة، وذلك أن الضرر يُزال، وجعل الحرمات قصاصاً، وجعل الجروح قصاصاً، ولذلك تكونت هذه. القاعدة: الضرر يُزال. من مُجمل الشريعة، وكما قلنا أن الفقهاء عندما استنبطوا القواعد الخمس الكبرى فإنهم فرّعوها إلى قواعد أخرى. فهذه القاعدة مثلاً من ضمن الفروع التي تفرعت منها "الضرورات تبيح المحظورات". وجدوا قوله تعالى: "فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه"، فاتخذوها كأنها قاعدة وجعلوا
الضرورات تبيح. المحظورات: اتبعوا الشرع فوجدوا أن الشرع قد حرَّم علينا محرمات، لكنه عند الضرورة فإنه يبيحها. والضرورة في تعريف الفقهاء: ما إذا لم يتناولها الإنسان هلك أو قارب على الهلاك. والحاجة: إذا لم يتناولها الإنسان أصابته مشقة بليغة، ولكن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. عامة يعني إزالة هذه من على المسلمين أو خاصةً يعني إزالتها من مجموعة أو شخص أو طائفة أو فئة معينة، الضرر يُزال. تولدت منها الضرورات المحذورات، وتولدت
منها قاعدة ارتكاب أخف الضررين واجب. فإذا فعل الإنسان فعلاً سيترتب عليه ضرر، وإذا امتنع عن هذا الفعل سيترتب عليه ضرر آخر، فماذا نفعل؟ نقيس الأضرار ونفعل أخفُّ الضررين حتى لا نقع في أشد المفسدتين، وهذا يناسب عصرنا الذي نعيش فيه. في قضية الدفن أرشدتنا الشريعة إلى اللحد والشق، ولكن أرض مصر قد تخلل فيها النيل عبر السدود، فإذا ما حاولنا أن ننشئ شقاً أو لحداً
وجدنا أن ذلك متعذر لوجود المياه، وكأننا سنلقي الجثمان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى في الماء، فاخترع المصريون هذه الطريقة (الفساقي) أو الحجر التي هي للدفن من أجل أن يصدوا عن الجثمان هذا النشع أو هذا الرشح أو هذه المياه. أما أن يفعلوا هذا وإما أن يهينوا موتاهم. ارتكاب أخف الضررين واجب، والضرر يزال، والضرورات تبيح المحظورات، ولذلك. سمّوا العصر الذي نحن فيه من كثرة هذه الأمثلة عصر الضرورة، وهذا يؤثر في اختيار المسلم الفقهي ويؤثر
في حياة المسلم اليومية. وارتكاب أخف الضررين يعني قاعدة مهمة وهي متولدة من تلك القاعدة الأم "الضرر يزال". أيضاً من هذه القواعد التي تولدت من كلمة "الضرر يزال" بالإضافة إلى الضرورات. تبيح الضروراتُ ارتكابَ أخفِّ الضررين، وهو واجبٌ. أي أنهم ضربوا مثالاً للميتة التي أباح الله لنا أكلها عند الضرورة، ولكنها ليست إباحة مطلقة، بل تسد
الرمق وتقوي على ما نحن فيه من ضرورة، وتعود الأمور بعد ذلك إلى الحرمة. يقولون أن شخصاً اغتصب لوح خشب ووضعه في سفينته، ثم إنه في وسط البحر ويريد أن يتخلص من هذا اللوح الخشبي حتى يرده إلى صاحبه، فإذا نزع لوح الخشب غرقت السفينة وما فيها من بشر وما فيها من بضائع. إذاً واجب عليه أن ينتظر حتى يصل إلى الشاطئ، ثم بعد ذلك ينزع لوح الخشب ويعطيه للآخر. شخص اغتصب
خيط جراحة. وخاط به جرحاً وبعد ما خاط به جرحاً يعني تاب فأراد أن يرفع هذا الخيط حتى يرده لصاحبه، أبداً لا يصلح، لا يجوز، ارتكاب أخف الضررين واجب، لا بد عليه أن يترك هذا في جرحه وأن يعوض صاحبه ثمنه من المال، لكن كونه الآن بين ضررين: ضرر النزع وضرر. العدوان مرة أخرى، وهو إذا استمر في الغصب، وإذا رُدَّ
يصبح كأنه أوقعت ضرره مرة أخرى على الطرف الآخر. ولذلك يُخرِجنا الفقه الإسلامي من هذه الحيرة بتلك القاعدة ومن هذه الفروع، فيقول هذا المقال: "الضرورات تبيح المحذورات" و"الضرر يُزال" و"ارتكاب أخف الضررين واجب" و"الضرورة تُقدَّر بقدرها"، فلا بد علينا. أنْ نقدّر الضرورة، نحن أصبحنا في عصر الضرورات وفي عصر الحاجات، ولذلك قالوا عن عصرنا أنه ليس بعصر ورع. كانت الصحابة تترك سبعين بابًا من أبواب الحلال حتى لا تقع في باب من أبواب الحرام. هذا متعذّر في هذا
العصر، وإنما الأعمال بالنيات، وعلى ذلك يصدق علينا قول النبي صلى. الله عليه وسلم أجر العامل فيهم كأجر خمسين منكم، قالوا: منّا أم منهم يا رسول الله؟ قال: بل منكم، فإنكم تجدون عوناً على الخير وهم لا يجدون. وصلنا إلى هذا العصر الذي نحتاج فيه مرة أخرى إلى التنبؤ بتلك القواعد التي تكوّن العقل المسلم من أجل أن يوجد المسلم في كل الحضارات وفي كل الأرض وفي كل مكان وأن يعيش العصر من غير مشكلات ومن غير أيضاً إرهاق ومن غير خلاف، فإنه إذا استوعب تلك القواعد وتلك المكونات وتلك المقدمات وتلك المبادئ وتلك المنطلقات فإنه سيرى نفسه يطبقها من غير عناء
ومن غير عنت يوقع فيه نفسه. إلى لقاء آخر. أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته