مكونات العقل المسلم | 2 | الإيمان بالله | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مكونات العقل المسلم: عرفنا العقل بأنه ذلك المكون، ذلك المكون من عناصر أربعة: الدماغ مع سلامته، والحواس الخمسة مع سلامتها، والواقع الذي نعيش فيه، والمعلومات السابقة. واتفقنا أن المسلم يشترك مع غير المسلم في الثلاثة الأول وأنه ينبغي علينا أن نغوص وأن نبحر في تلك المعلومات السابقة التي يحتلها العقل المسلم. فلو ذهبنا إلى هذا العقل حتى نعرف
ما الذي يكوّنه نجد أنه يعتقد اعتقاداً جازماً بأن هناك إلهاً لهذا الكون، والاعتقاد الثاني أن هذا الإله الذي خلق الكون حكيم، ولذلك يعتقد اعتقاداً ثالثاً. إنَّ هذا الإله له الصفات العُلى فهو مريد وقدير وعليم، ويعلم السر وأخفى من السر، ويعلم الجهر وما يخفى، ويعلم الظاهر والباطن، والأول والآخر، يعلم كل شيء وهو على كل شيء قدير، وهو
بكل شيء محيط. المسلم تراه يؤمن بهذا الإله بأنه مطلق القدرة، وبأنه لا يحدُّه مكان ولا. يحتويه زمان وأنه سبحانه وتعالى يختلف عن هذا العالم الذي حوله. هذا الكلام ينشأ عليه المسلم ويتعلمه حتى يصير بالنسبة إليه من المسلمات ومن البدهيات، لكنه يؤثر كثيراً في حياته وفي سلوكه وفي فعله وإقدامه وفي تركه وإحجامه عن الأمور. هذا الإيمان الذي قد يكون مسألة بالنسبة لبعض الناس. بسيطة الحقيقة أنه هو القضية الكبرى التي توجه المسلم في كل تصرفاته. هذا
الإيمان يُعدّ معياراً يقيس به المؤمن كل شيء، فتراه من خلال هذه العقيدة يصف الشيء بأنه خير ويصف شيئاً آخر بأنه شر، ويقول إن هذا حسن وإن هذا قبيح بناءً على إيمانه بالخالق سبحانه وتعالى. إذاً، فحتى مكونات العقل المسلم سنرى أننا نتعامل مع إيمان راسخ عميق واضح بالله سبحانه وتعالى. هناك مكونات أخرى وهي أنه يؤمن أن الله لم يترك الناس عبثاً ولذلك فهو ينزل الوحي، وأن هذا الوحي
ليس فقط يعبر عن الحقائق الكونية وليس فقط يعبر عن الأخلاق الإلهية المصطفوية وليس فقط يعبر عن الخير ويحذر من الشر بل إنه يقوم بتكليف المؤمن. فالمؤمن إذاً يؤمن المسلم بالله وبالوحي وبالتكليف "افعل ولا تفعل"، ثم إنه يؤمن أيضاً بالرسل، يؤمن أيضاً بالكتب، يؤمن أيضاً باليوم الآخر، يؤمن أيضاً بالقدر خيره وشره، يؤمن أيضاً بأن الدنيا بُنيت على المطلق الذي تتمثل فيه الأخلاق وعلى النسبي. والنسبي يتغير بتغير الجهات
الأربعة: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال. يؤمن أيضاً بأن الأشياء لها حرمة وبالقداسة، فتراه يقدس المصحف والنبي ويقدس الكعبة وهكذا. يؤمن أيضاً وغيره قد لا يؤمن، وقد يؤمن بأن هناك مقاصد أرادها الله سبحانه وتعالى من حفظ النفس والعقل والدين وكرامة الإنسان والملك. يؤمن أيضاً بالمصلحة وأنها... كالمنفعة وزناً ومعنى، هكذا نعيش مع هذه المكونات للعقل المسلم، نغوص فيها واحدة بعد أخرى. فأول هذا هو الإيمان
بالله سبحانه وتعالى من مكونات العقل المسلم الذي يتعلمها وتمتزج في وجدانه أن خالق الأكوان هو الله، وأنه لا إله إلا الله. والمسلم يقول لا إله إلا الله، هي ركن من أركان الإسلام وهي أحد ركنين: الشهادتين. محمد رسول الله هو الركن الثاني، لا إله إلا الله. إذاً فهو يؤمن إيماناً مطلقاً بالله سبحانه وتعالى، وأن خالق الأكوان والرازق والمحيي والمميت والحي القيوم هو الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له. فأول صفة عند المؤمن بالله هي
الوحدانية. الله واحد في ذاته واحد في فعله واحد في صفاته لا شريك له الذي خلق الدنيا هو الله وهو خلقها في الماضي ولكنه ما زال يخلقها وسيفعل ذلك إلى أن يأذن بيوم القيامة فيفنيها، إذاً فنحن نُخلق كل طرفة عين بل أقل من ذلك، ولما علمنا الله سبحانه وتعالى الفيمتو ثانية بل أقل. منذ الفيمتو ثانية فكأننا من إنشاء الله وخلقه أبداً، فلو أن الله قطع عن هذا العالم وعن الإمداد إمداد الخلق لفني العالم
ولم نجده ووجدناه عدماً محضاً. هذا هو إيمان المسلم بالله، ولذلك ترى هذا اللفظ "الله" يؤثر فيه تأثيراً بليغاً لأنه منذ صغره علّموه أن الله سبحانه وتعالى جلّ. جلاله هو الخالق والمحيي وأنه هو سبب الوجود وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول سيدنا صلى الله عليه وسلم: "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز العرش". يحتل هذا اللفظ في نفس المسلم وفي عقله عمقاً شديداً، بل إنه يتأمله ويتعجب منه، فلفظ الجلالة "الله" يدل...
على الذات العلية، على خالق الأكوان، خالق السماوات والأرض بكله. ماذا يعني بكله؟ يعني أن الله هو الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد. فلو حذفنا الألف تُرسم لله أيضاً، ما زلنا هنا. هذا اللفظ بعد حذف الألف يدل عليه سبحانه وتعالى، ولو حذفنا اللام الثانية الأولى له سبحانه وتعالى لو اللام الثانية وأبقينا الهمزة لكان "إله"، ولو حذفنا الألف واللام لبقيت "هو" وهو ضمير عند
إطلاقه يدل على الله سبحانه وتعالى، وهكذا فإنه يدل بكله على الله. لو تتبعنا ما ورد في القرآن الكريم من أسماء الله الحسنى نجدها كثيرة جداً، ونتعجب لماذا يكثر الله سبحانه وتعالى من أسمائه. وصفاته فيصف نفسه بكل هذه الأوصاف يفعل ذلك لأنه يبين من هو لعبادته فهو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور
الشكور العلي الكبير، الحفيظ، المقيض، وهكذا أسماء الله الحسنى كثيرة، أكثر من مائة وخمسين اسماً في القرآن، ومائة وستين اسماً، أكثر من مائة وستين اسماً في السنة، وأكثر من مائتين وعشرين اسماً في كل من القرآن والسنة بعد حذف المكرر. لماذا أكثر الله من أسمائه؟ قالوا: لأن العرب كانت إذا أحبت شيئاً. أو خافته أكثرت من أسمائه فتراهم أكثروا من أسماء الخمر وأكثروا من أسماء الأسد وأكثروا من أسماء البحر لأنهم كانوا يخافون أن يركبوا البحر وأمثال هذا الخوف أو الحب، فالله سبحانه وتعالى أكثر من أسمائه من أجل أن يصل هذا إلى قلوبهم فيعظمونه سبحانه
وتعالى وقالوا إنه أكثر من أسمائه. لبيان صفاته لخلقه حتى يعرف الخلق تماماً من يعبدون. كنّا نقرأ هذا في الكتب حتى جئنا إلى العصر الحديث وسمعنا شبهات المشككين الذين يقولون إن المسلمين يعبدون رباً لا يعرفونه. هذا الكلام من أبطل الباطل، فإن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قد وصف نفسه بما لا مزيد بعد ذلك. لا أحد يستطيع أن يدعي أنه يعبد إلهاً لا يعرفه. وصف الله نفسه بصفات الكمال وصفات الجلال وصفات الجمال، ولم يترك لنا شيئاً مما يزيل عنا هذه الشبهة
إلا وقد فعله قبل أن تقوم هذه الشبهة. لم يقل بهذه الشبهة أحد من الأقدمين، لكن قالها من جهل الإسلام والمسلمين، والإيمان وجدان المسلمين يعظمون الله سبحانه وتعالى كثيراً. من مزايا الإيمان بالله سبحانه وتعالى أن الرب رب وأن العبد عبد، وأن هناك فارقاً بين المخلوق والخالق. ولذلك هم لا يقولون أبداً بالحلول - بحلول الله في الكائنات - ولا بالاتحاد، ولا أنه قد نزل بجسده، ولا أنه أحد من البشر يمكن به الله أو يتمثل فيه الله أبداً توحيد
خالص، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن". لماذا؟ لأن فيها التوحيد الخالص. "قل هو الله أحد الله الصمد" الذي يُتوجه إليه بالدعاء ويُصمد إليه بالطلب، وهو القادر على أن يلبي كل الطلبات. لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، إذًا فهو سبحانه وتعالى مفارق لهذه الأكوان وهو موجود على الحقيقة، وهو واحد أحد فرد صمد لا إله إلا هو. الإيمان بالله يسيطر على عقل المسلم ويكون عقله ابتداءً، ولذلك سنرى بعد ذلك أن كل ما سيأتي
من مكونات العقل المسلم إنما هي مبنية على التوحيد الخالص لرب العالمين الذي قدَّر وهدى والذي أخرج المرعى والذي إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.