مكونات العقل المسلم | 20 | التيسير | أ.د علي جمعة

مكونات العقل المسلم | 20 | التيسير | أ.د علي جمعة - التفكير المستقيم, مكونات العقل المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم، كيف يفكر وبمَ يفكر وما القواعد الضابطة له، وكيف يتعامل مع الأحكام ومع الواقع ومع الآخر ومع نفسه، كيف ينظم علاقته مع ربه ومع الكون ومع الإنسان، كيف يرى ماضيه. وحاضره ومستقبله، كل ذلك يتضح عندما نسلط الضوء على مكونات عقل المسلم. ورأينا أن من مكونات عقل المسلم القواعد الفقهية الكبرى التي جمعها العلماء بتتبعهم واستقرائهم التام لفروع الشريعة المبنية في الأساس على الكتاب وعلى السنة، وأيضاً
على إجماع الأمة وعلى هوية الإسلام. ومن هذه القواعد الخمس الكبرى: "الأمور بمقاصدها". لقد تكلمنا عنها وكذلك الضرر يُزال، وتكلمنا عنها، والثالثة المشقة تجلب التيسير. رأينا في الشريعة كلها أن المشقة تجلب التيسير. رأينا ربنا سبحانه وتعالى يقول: "ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل". رأيناه سبحانه وتعالى وهو يقول: "لا يكلف الله نفساً إلا..." وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. رأينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "فليعبد أحدكم ربه
بقدر طاقته، فإن الله لا يمل حتى تملوا". رأينا الشريعة وهي تؤكد على هذا المعنى، فيروى عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. واليهود تُسلم عليه بكلامهم الباطل ويقولون السام عليكم، يعني الهلاك عليكم، حتى أن عائشة عندما تنتبه لهذا التحريف وما يلوون به ألسنتهم فإنها تشتمهم وتسبهم، فيهدئ من روعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: "يا عائشة، قولي وعليكم، فإن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه
وما نُزع من إلا شائناً وإن الله سبحانه وتعالى لا يعطي على الرفق ما لا يعطي على ما سواه، حنيفية سمحة، إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق. هذا هو الإطار العام للأحكام، ولذلك رأينا أن الله سبحانه وتعالى قد حرم علينا المحرمات بصورة محددة معدودة محصورة محفوظة، فحرم علينا أشياء في المآكل وفي المشارب. وفي الملابس وهكذا، لكن هذه المحرمات مساحتها ضيقة، وبقية الأشياء فيها جواز. أما أن يكون هذا الجواز على سبيل الوجوب أو
الندب أو الكراهة أو الإباحة، فكل ذلك جائز للمؤمن أو للمسلم أن يفعله. إذاً المشقة تجلب التيسير، رأينا من الأحكام أن الصائم إذا سافر جاز له أن يفطر، صحيح. وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، لكنه ما دامت هناك مشقة وهذه المشقة بليغة فإنه له أن يفطر، وكذلك المريض والحامل والشيخ الكبير إلى غير هذه الأمثلة ممن يجوز له الإفطار، وذلك للمشقة. عندما جاء الصوم
وصوم مشق، وجاء معه مشقة أخرى مثل السفر، والنبي صلى الله عليه وسلم. يقول السفر قطعة من العذاب وهو إلى يومنا هذا هو قطعة من العذاب حيث يغير الإنسان فراشه ومسكنه وعاداته في مأكله ومشربه وكل هذا يصيبه بشيء من الخلل ولذلك السفر ما زال عذابًا حتى بعدما اتسعت وسائل الراحة واختُزِل الوقت اختزالًا إلا أنه ما زال أيضًا يسبب مشقة وعناء. تستوجب هذه الرخصة، ولذلك رأينا من رخص السفر أن تجمع بين الصلاتين، وأن تقصر الصلاة من الرباعية إلى الثنائية. فكل رباعية تصبح ثنائية: الظهر، العصر،
العشاء. والفجر والمغرب ليست رباعية فلا تقصر، ولذلك نصليها كما هي. ويمكن أن نصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء إما في وقت الأولى وإما في وقت يعني جمع تقديم أو جمع تأخير وكل ذلك من رخص السفر، هذا التيسير مصنوع في الحقيقة للمصلحين في الأرض، لمن يسافر لطلب العلم، أو يسافر لبر الوالدين، أو يسافر لطلب الأرزاق، أو يسافر لأي غرض شرعي. أما من سافر من أجل أن يقتل أو أن يفسد في الأرض أو أن أو أن يقطع الطريق فهذا لا يجوز له أن يترخص برخص الشريعة، فرخص الشريعة هي للأتقياء
الأنقياء الأوفياء الذين يريدون أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى، فيخفف الله سبحانه وتعالى عنهم، وليست لأولئك المفسدين في الأرض. ولذلك قالوا قاعدة: "الرخص لا تناط بالمعاصي"، أي أن هذا التيسير إنما في الحقيقة هو بالشريعة وليس للمفسد في الأرض. قالوا هناك فارق بين المعصية بالسفر والمعصية في السفر. فرَّق الفقهاء بين المعصية بالسفر والمعصية في السفر. أما المعصية التي هي بالسفر فالسفر سبب للمعصية والمعصية سبب للسفر، يعني أن الذي دفعه للسفر أنه ذهب
ليقطع الطريق أو ليقتل أو ليفسد في الأرض، فهذا هو كان السفر محرماً ولذلك فهذه معصية بالسفر، فالسفر نفسه فساد في الأرض. هذا الانتقال الذي انتقله لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين. المعصية إذا كانت بالسفر فإنه لا يجوز الترخص. أما لو أن الإنسان ذهب لبر والديه أو لتحصيل العلم أو الرزق أو الجهاد أو نحو ذلك من الأمور. المشروعة ثم وقعت منه معصية وهو في هذا السفر فهذه يسمونها المعصية في السفر وليست بالسفر وما دامت المعصية قد وقعت في السفر فإنه حينئذ يمكن أن يتمتع بالرخص والتيسير
ورفع المشقة فيمكن له أن يفطر ويمكن له أن يجمع الصلاة ويمكن له أن يقصرها ويمكن له أن يتيمم ويمكن له أن يمارس سائر ما أباحه الله سبحانه وتعالى في هذا المقال. لماذا؟ لماذا هو كذلك؟ لأنه وقع في المعصية، وكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون. وربنا سبحانه وتعالى رحيم، فيقول: "يا ابن آدم" - في الحديث القدسي - "لو جئتني بقراب الأرض ذنوباً ثم جئتني تائباً لغفرت لك". العاصي هو قد وقع منه معصية في السفر كما أنها تقع في الحضر، ولكن الدافع للسفر كان دافعاً سليماً لا غبار عليه ودافعاً معتبراً في الشرع،
ولذلك أجزنا له أن يتمتع بالرخص الشرعية. هذا يعني شيئاً مناسباً لنا أن نذكره دائماً وهو أن المشقة تجلب التيسير كثيراً جداً في الشريعة. جلبت المشقة التيسير. لو أن ذبابًا وقف على النجاسة ثم جاء ووقف على الملابس، فمن المؤكد أنه قد حمل شيئًا من النجاسة، ولكن هذا معفو عنه. لماذا هو معفو عنه؟ لأن هناك مشقة لم يكلفنا الشارع بتتبعها، ولذلك فالمشقة دائمًا تجلب التيسير. هذا الفهم قد ابتعد عنه كثير
من الناس. ولذلك رأيناهم يريدون التشديد على أنفسهم، وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علَّم صحابته وعلَّم الأمة من بعدهم، أنه وجد مرة حبلاً منصوباً فقال: "ما هذا؟" قالوا: "هذا حبل وضعته زينب رضي الله تعالى عنها من أجل الصلاة حتى إذا تعبت فإنها تستند على هذا". الحبل فزالت، وقال هذه القولة القوية الجميلة: "ربه طاقته، فإن الله لا يمل حتى تملوا". فيجب علينا أن نعبد الله سبحانه وتعالى بيسر، بشوق، بحب، وليس أداءً للواجب أو تخلصاً مما علينا.
هذا شعور لا يوجد فيه أثر العبادة الصحيح في القلب. أثر العبادة الصحيح أن الصلاة تنهى عن الفحشاء. والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. الإنسان عندما يأتي بالصلاة على وجهها تراه قد نُهي ونهته هذه الصلاة عن الفحشاء والمنكر وذكرته بالصراط المستقيم. أما إذا أتى الصلاة على غير وجه فإنها لا تؤتي أثرها فيه وتراه يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. المشقة تجلب التيسير، هذه قاعدة لكنها... في نفس الوقت كمكوّن من مكونات العقل المسلم، نتعجب نحن المسلمون من أولئك الذين خرجوا على أمة الإسلام لا يميزون
بين برها وفاجرها، فهم يقتلون من غير وعي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج على أمتي لا يميز بين برها وفاجرها فأنا بريء منه يوم القيامة". المشقة تجلب... التيسير مكون مهم من مكونات العقل المسلم. إلى لقاء آخر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.