مكونات العقل المسلم | 21 | العادة محكمة | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مكونات العقل المسلم التي يتعامل بها مع الحياة أن العادة محكمة، وهي قاعدة فقهية عظيمة من القواعد الخمس الكبار: الضرر يزال، والعادة قد حُكّمت، وكذلك المشقة تجلب التيسير، والشك لا يُرفع به متيقن. وخلوص النية إن أردت أجره، هذه الخمسة، منها: العادة محكّمة، والعادة محكّمة مبنية على قوله تعالى: ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾. أمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نأخذ بالعرف السائد. هذا الكلام في الحقيقة
تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبدع ما يكون عندما ضرب لنا. كيف يعيش المسلم في وسط مختلف تمام الاختلاف بعضه عن بعض؟ علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يعيش المسلم وهو في بلد يكره الإسلام والمسلمين ويحارب الإسلام والمسلمين ويخالف في نظمه ومناهجه وتعليمه وتعليماته وحياته الإسلام والمسلمين، كما كان المسلمون في مكة المكرمة في وسط المشركين. كان رسول... الله صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويصلي فيه وكان في المسجد الحرام أكثر من ثلاثمائة وستين صنمًا، إذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم تعايش، وهذا أمر مهم يؤخذ من تلك القاعدة، كيف يتعايش المؤمن مع هذا الوسط الذي يحاربه ويكرهه ويلفظه، بل ويعذب بلالًا وعمارًا ويقتل. سمية ويسر كل هذا الحال. ما الذي حدث فيه؟ حدث فيه أنه قال لخباب: "إني رسول الله ولينصرني الله، حتى تسير الظعينة - يعني المسافرة - من مكة إلى الحيرة لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها، ولينصرن الله". ولقد كان من كان قبلكم يُؤتى بأحدهم فيُوضع المنشار في مفرق. ينشر رأسه ما بين جلده وعظمه، لا يرده ذلك
عن أمر دينه شيئاً. تعايش في مكة لما اشتد البلاء. كانت هناك صورة أخرى من صور كيفية التعايش تمثلت في أمره للهجرة الآمنة. الهجرة نوعان: هجرة أمن وهجرة إيمان. هجرة الأمن كانت إلى الحبشة؛ أمر أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة فهاجروا. إليها عبر الفترة والعهد المكي مرتين، الهجرة الأولى والهجرة الثانية، وكان دافع النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن قال لهم إن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد. هذا الملك لم يكن مسلمًا، كان النجاشي وكان على الدين النصراني،
لكنه كان عادلًا، وهنا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيمة مهمة في مجال العادة محكمة وهي أننا نحترم العدل حيثما كان ونحترم الكرم حيثما كان ونحافظ على ذلك مع كل أحد. قال تعالى: "لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" واقصدوا أن الله يحب المقسطين، يحب العادلين، ولذلك أمرنا رسول الله صلى الله. عليه وسلم بألا نشهد شهادة الزور ولو على من نُصلِح مِمَّن نحب، وقال إنها من أكبر الكبائر، وكان متكئًا فقال: ألا
وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، إلى آخر ما هنالك من هذا المعنى من معيشة المسلم في وسط الأعراف التي تمثل دائرة وإن لم تكن دائرة إسلامية في وضع مكة في دولة تحارب الإسلام والمسلمين، وفي وضع الحبشة في دولة تبنت الإسلام وسمحت له بالمعيشة ولم تؤمن به، ولذلك نرى المسلمين في الحبشة وقد عرضوا على النجاشي أن يشتركوا معه في الجيش ويحاربوا تحت لوائه عدوه، وكان ابن عمه هذا يقاتل،
وحينئذٍ رفض النجاشي وطلب منهم انتظار فلما رأوا النصر للنجاشي هللوا وكبروا وأظهروا الفرح فرحاً شديداً من قلوبهم. إذ إن هؤلاء فهموا معنى المواطنة وفهموا معنى أن العادة محكمة وفهموا معنى التعايش وكيف يعيش المسلم في دولة غير إسلامية أو في جو غير إسلامي. عندما حل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وكان هذا هو... النموذج الثالث بكيفية أن العادة محكمة صُنع مع اليهود. وُجد في المدينة مشركون، ووُجد في المدينة منافقون، ووُجد في المدينة يهود، ووُجد في المدينة مسلمون، وأصبحت السلطة له صلى الله عليه وسلم، إلا أنه عاهد
اليهود في صحيفة المدينة، وجاءت فيها مفاهيم التعايش والأخذ بالأعراف والجوار وحسن الجوار. صحيفة المدينة. ينبغي أن تدرس تحت كلمة "العادة محكمة" أن "العادة محكمة" ليست فقط الأخذ بالعرف في الزواج والطلاق والقائمة والمقدم والمؤخر وما إلى ذلك، أو في الأحوال الشخصية، أو في الشهادات، أو في الألفاظ والأيمان. أبداً، "العادة محكمة" هي منهج حياة ومكون أساسي رأيناه أيضاً بصورة مختلفة حينئذٍ حيث أن الحكومة ولكن الشعب متعدد الديانات في المدينة أولاً، والنموذج الرابع في المدينة أخيراً بعد جلاء اليهود
بعد خيانتهم. بنو قريظة خانوا وبنو النضير خانوا وهكذا فأجلى هؤلاء وحُكِمَ قضائياً على أولئك. ولكن القضية هي كيف يعيش المسلم في العالم؟ عنده أربعة نماذج من أجل أن يطبق من خلالها بصورة تفصيلية وترك. لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التفصيل في سيرته وفي سنته بصورة لافتة للنظر وبصورة تفصيلية تصلح لبناء الأحكام عليها عبر القرون ولبناء مناهج الحياة عليها عبر القرون. هذه النماذج الأربعة التي تركها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن ندرجها أثناء شرحنا لمكون من أهم مكونات العقل المسلم
وعنوانه "العادة محكمة"، يعني "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين". فنحن الآن أمام هذا المكون الذي ينبغي علينا أن نحسن استعماله وأن نعي عمقه في كل شيء. يؤيد هذا ويرشحه ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلمنا التفاوض في الحديبية. درس كبير. ينبغي أن نقف عنده وهو يقول لسهيل بن عمرو وهو يكتب صحيفة المعاهدة من أجل أن يُحيِّد المشركين في مكة ثم يخرج بعد ذلك من أجل فك حصار خيبر في شمال المدينة: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فيقول:
"لا نعرف الرحمن الرحيم، اكتب بسمك اللهم"، لم يقف النبي صلى الله عليه. وسلم كثيراً عند هذا لأنه يعلمنا أن العادة محكمة وأنه يمكن أن نأخذها بالعرف. قضية هنا قضية انتماء وقضية رموز، أو أنها لم تصل بعد إلى هذا. النبي يبين أن المقصود الأهم هو تنحية المشركين فيثور عمر أو علي، ولكن في النهاية "بسمك اللهم" لا بأس، هذا ما عاهد عليه. محمد بن محمد رسول الله، قال: "لو عرفنا أنك رسول الله ما قتلناك وما منعناك". اكتب: "محمد بن عبد الله". فأبى علي أن يمحو "رسول الله"، فمحاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُكمل علي رضي الله تعالى عنه كتابته. ما هذه الأوضاع؟ هو
يُعدمنا! كيف نتعايش؟ كيف نُفاوض؟ في السياسة كيف نتفق مع الآخرين، كيف نحاور الآخرين وهكذا، وكل ذلك مندرج تحت هذه القاعدة العظيمة التي قد لا يكون قد التفت إلى هذا المعنى من خلالها أحد، وهو كلما سمع هذه القاعدة فإنه يربطها بالفقهيات، ولكنني أريد أن أربطها بالمناهج، وأريد أن أربطها بالمبادئ العليا، وأريد أن أربطها. بمكونات عقل المسلم الذي يتعامل مع القليل والكثير مع الجليل والحقير في أمور الدنيا وهو يسير فيها إلى لقاء آخر. أستودعكم الله والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.