مكونات العقل المسلم | 22 | اليقين لايزول بالشك | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مكونات العقل المسلم رأينا أن القواعد الخمسة الكبرى للفقه الإسلامي هي من مكونات العقل المسلم. رأينا إخلاص النية أو الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والعادة محكمة، واليوم نتكلم عن أن اليقين لا يزال. باليقين لا يزول الشك، هو في كل الشريعة هكذا، في كل فروع الشريعة اليقين يقين والشك شك. هذا المعنى يجعل الإنسان
قوياً في نفسه. ما أُخِذَ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلي ألا ينصرف من صلاته إذا شعر بأن شيئاً قد خرج منه حتى يشم رائحة أو... يسمع صوتاً ويشم الرائحة ويسمع الصوت، ومعناها اليقين، ولذلك فهو لا يستجيب للشك، فصاغ هذه القاعدة: اليقين لا يزول بالشك. اليقين أمر قطعي، وضد القطع على ثلاثة أنحاء: إما أن يكون معناه إدراك الطرف الراجح ويسمى الظن، أو يكون إدراك الطرف المرجوح ويسمى الوهم، أو يكون استواء
الطرفين ويسمى الشك. وأغلب الشريعة مبناها على الظن ولكن ليس على الشك. والشك معناه التردد بين أمرين لا يستطيع أن يميل وأن يرجح واحداً من الطرفين، هذا هو الشك: استواء الطرفين، خمسين في المائة، خمسين في المائة لنعم أو لا طرفين. أما اليقين فهو مائة في المائة كما تكلمنا بتوسع في ذلك عندما... تحدثنا عن العلم عند المسلمين، اليقين نسميه القطع، والقطع يتأتى بأمور من ضمن
هذه الأمور البدهيات. قطعية لا يختلف فيها اثنان من العقلاء. لا يختلف اثنان من العقلاء أن السماء فوقنا وأن الأرض تحتنا وأن الكل أكبر من الجزء وأنه لا يمكن إدخال الموسع في المضيق دون أن يتسع. المضيق أو يضيق الموسع حتى يلج الجمل في سم الخياط، وأن العقلاء جميعاً قالوا بأن واحداً زائداً واحداً يساوي اثنين، وهي أمور لا يختلف عليها أحد من العقلاء. كذلك البديهيات والمجربات، فالمجربات من الأمور الحسية، فالنار محرقة، والشمس مشرقة، والماء يُحدث الري. هذه مجربات، ولذلك نرى أنها
وصلت إلى مرحلة كذلك التواتر، فقد تواتر عندنا أن العرب سمَّت هذا الحيوان فرساً وحصاناً، وسمَّت هذا الشيء عصاً، وسمَّت هذا الشيء سيفاً، وهناك فرق بين السيف والعصا، وبين الحمار والحصان. مَن الذي أطلق على هذه الدابة الحصان أو على هذه الدابة الأخرى الحمار؟ ومَن الذي جعلك متأكداً من هذا التواتر؟ تواترت اللغة على هذه الدلالات ولذلك اللغة منها مساحة قطعية ويقينية. هناك أيضاً أمور تتعلق بالشريعة وصلت إلى حد اليقين، فترى المسلمين جميعاً متفقين على هوية
الإسلام. الكل يقول إن أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم. رمضان جاء والبيت كلهم اتفقوا على أن البيت هو الكعبة وليس بيت المقدس مثلاً، كلهم اتفقوا على أن الشهر الذي نصومه هو رمضان، كلهم اتفقوا على أن الصلوات خمسة، كلهم اتفقوا على أن الظهر أربع ركعات، كلهم اتفقوا على أن الزواج حلال، كلهم اتفقوا على أن القتل والزنا والسرقة والكذب. والبهتان حرام كلهم، وهكذا فإن ضروريات الإسلام قد اتفق عليها الناس بصورة يقينية، لم يختلف فيها اثنان ولم يتناطح فيها كبشان كما يقول المثل العربي
المشهور. ولكن هناك أمور مبناها الظن، فترى الفقهاء وهم يختلفون، فالإمام الشافعي يقول إن لمس المرأة ينقض الوضوء، والإمام أبو حنيفة يقول لا ينقض الوضوء، يُستدل على ذلك من الكتاب ومن السنة ومن كلام الصحابة. ترى البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فمذهب يقول بألفاظهما، ومذهب ثانٍ يقول بأجسادهما. خلافات ولكن الكل متفق على هوية الإسلام التي ذكرناها، لم يختلف أحد أبداً فيها،
ولذلك هذا يكون من باب الظن، والفقه من باب الظنون حتى أنهم إن هذه المسائل المتفق عليها التي تمثل هوية الإسلام ليست من الفقه، بل تُذكر في الفقه من باب ذكر الشيء بالشيء، وليس باعتبار أنها من الفقه الذي هو محل الظن. فليس محلاً للظن أن الظهر أربع ركعات، ولا أن الصلوات خمس، ولا أن الفرائض هكذا أبداً، فهذا ليس من محل هذا ولكن هذا يُذكر في الفقه يُذكر في الفقه على سبيل أن الشيء بالشيء يُذكر لأنه تم الخلاف في مفضل الوضوء فلا بد أن نتكلم عن الوضوء وأنه قبل الصلاة باتفاق ولذلك حكاية الاتفاق هذه تُذكر في الفقه على سبيل أنها توطئة وتمهيد لذكر
الخلافات الفروع التي بعدها ومعنى هذا الكلام أن المتفق عليه يقين وأنه وصل إلى مرحلة اليقين الذي لا شك فيه. لم نجد مسلمين عبر القرون من الفقهاء من العلماء يشككون في اليقين لأن اليقين لا يزول بالشك. لم نجد من يخرج فيقول أن حجاب المرأة ليس فرضاً. لم يقل أحد هذا من المسلمين، لم يقل أحد. لم يقل أحد من المسلمين أن السرقة حلال أو الاغتصاب أو شهادة الزور، ولم يقل أحد من المسلمين أن الصلاة ليست واجبة، ولم يقل أحد من المسلمين أنه يجوز أن نتوجه إلى بيت المقدس أو إلى أي مكان آخر
كالشرق أو الغرب أو شيء من هذا القبيل مستدلاً مثلاً بقوله فثم وجه الله، لم يقل أحد من المسلمين هذا أبداً، وذلك لأن اليقين الذي تربينا عليه من التواتر ومن الاتفاق ومن الإجماع الذي صار كالضروري عندنا، هذا لا يزول بشك الشاك ولا بتوهم المتوهم. الخمر حرام، لكن هل هي نجسة أو ليست بنجسة؟ خلاف. فكان خالد بن الوليد يرى أنها ليست بنجسة، بل كان يستحم بها مثل ما يوجد الآن من الكولونيا والعطور التي يستحم بها بعض الناس. أليست بنجسة؟ كثير
من الفقهاء قالوا إنها نجسة، لكن أيضًا كثير من الفقهاء قالوا إنها ليست بنجسة. عمر كان يرى أنها نجسة حتى قيل أنه عزل خالدًا رضي الله تعالى عنه، وهو الجيش من أجل أنه رفض أن يترك هذا الشيء اليقين لا يزول بالشك، هذه قاعدة مهمة تؤدي إلى قوة المسلم وبعده عن الوسواس. نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسواس، وأن الوسواس له شياطين: "الولهان" و"خنزب" وغيرهما. هذه الشياطين توسوس للإنسان في الطهارة وفي الصلاة. فأمرنا
ألا نكون كذلك وألا نستجيب للوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. أمرنا أن نكون أقوياء فقال: "المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو كنت أفعل لكان كذا وكذا". ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان. ويقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه وقال: "يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت..." على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه
الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف. اليقين لا يزول بالشك قاعدة من مكونات العقل المسلم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.