مكونات العقل المسلم | 24 | العقلية الفارقة | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم رأينا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه العلماء والفقهاء والمفكرون من المسلمين وهم يكتشفون لنا مكونات العقل المسلم الرباني العميق المستنير الحضاري، يكتشفون لنا مكوناً أساسياً. وهو أنه عقل فارق، صفة
من صفات العقل المسلم أنه عقل فارق، ولذلك نرى من هذه الصفة بعض مكوناته المخفية وراء أنه عقل فارق. نراه مثلاً يرتب الأولويات، وترتيب الأولويات يجعلنا نصف هذا العقل بأنه عقل فارق، يعرف أن هذا غير هذا، هذا هو الأول وهذا بعد ذلك، ولذلك. فهو يفعل المهم
ثم بعد ذلك يفعل الأقل أهمية، وهو يفعل المهم لا ينكر أهمية غيره، لكنه يفعل أولاً الأهم ثم المهم ثم ما هو أقل أهمية. وفي هذا الترتيب هو لا ينكر الأهمية، يرى أن هذا مهم وهذا مهم وهذا أيضاً هو مهم، ولكن هذا هو الأولى بالأهمية رأيناً. ذلك في كل شيء بكتاب الله وفي سنة رسوله وفي الفقه الإسلامي وفي التشريع وفي التاريخ حتى أنهم كونوا قاعدة تكلمنا عنها في مرة من المرات السابقة
تقول ارتكاب أخف الضررين واجب لأنه يقوم بترتيب الأولويات نعم هو يعلم أن ضررا ما في هذا الفعل وأن ضررا آخر في ذاك لكنه لما رأى أن هذا الضرر هو أخف وأنه إذا لم يفعله سقط في الضرر الأعظم رتب الأولويات ودخل هنا في تنفيذ الأخف ضرراً والأشد مصلحة والأقل مفسدة، ولذلك يقولون أيضاً من باب ترتيب الأولويات قاعدة عظيمة جداً في الفقه الإسلامي، بل إن بعضهم كالعز بن عبد السلام يقول إنها هي
القاعدة التي بُنيت عليها الشريعة الإسلامية: درء المفاسد مقدم - هذه كلمة أولويات - مقدم على جلب المصالح. فلو أن عملاً ما، ودائماً عندما ينظرون إلى الأعمال، ينظرون إلى الميزان الذي أنزله الله سبحانه وتعالى مع الكتاب، الميزان هو العقل، يزنون به الأشياء ويرون أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. هذا الفعل سينتج منه مصلحة لكن سيحدث معه مفسدة، إذاً فهيا بنا نسد المفسدة أولاً ثم بعد ذلك ننتقل إلى جلب المصلحة. درء المفاسد مقدم على جلب المصالح،
ولذلك أباح الشرع الطلاق. الطلاق هذا أبغض الحلال عند الله، الطلاق فيه خراب للبيوت وفيه تشتيت للأسرة وفيه ضياع للأولاد ولكن هذا. من باب ارتكاب أخف الضررين وتقديم الأولويات، فإذا كانت الأسرة ستؤدي بنا إلى ضياع الإنسان مع ربه وضياع الإنسان مع نفسه وضياع الإنسان مع مراد الله من خلقه، فلا يستطيع أن يقوم بوظيفته التي أراده الله فيها، فإنه يُغني الله كلاً من سعته، ونبدأ تجربة جديدة حدّها الله بالطلاق. وَجَعَلَهُ ثَلَاثَةً. جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الطَّلَاقَ أَسَاسًا
بِيَدِ الرَّجُلِ وَلَا يَكُونُ بِيَدِ الْمَرْأَةِ إِلَّا بِالتَّفْوِيضِ وَالِاشْتِرَاطِ وَالتَّوْكِيلِ. رَتَّبَ الْأُمُورَ لِأَنَّ عَقْلَ الْمُسْلِمِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَوْلَوِيَّاتِ. مِنْ تَرْتِيبِ الْأَوْلَوِيَّاتِ أَيْضًا وَمِنْ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ الْفَارِقِ أَنَّنَا نَجِدُ الْإِسْلَامَ وَهُوَ يُعَلِّمُ أَتْبَاعَهُ أَنَّ هُنَاكَ فَارِقًا بَيْنَ الْمُسَاوَاةِ وَبَيْنَ التَّسَاوِي مِنْ عَقْلٍ. المسلم أن الله سبحانه وتعالى أقر المساواة بين البشر، أقر المساواة في ماذا؟ في التكليف، أقر المساواة في الحقوق، أقر المساواة في الواجبات، أقر المساواة
في الآثار المترتبة على العقود، أقر المساواة في كل شيء، المساواة بين الحاكم والمحكوم، بين الرجل والمرأة، بين صاحب المال والعامل، بين كل طرفين. أتتصور أنهما متساويان؟ المساواة قيمة. هذه المساواة رأيناها بين الرجل والمرأة مثلاً على سبيل المثال في أصل الخلقة. عندما يتحدث ربنا عن قصة الخلق، يتحدث عن أن الرجل والمرأة جاءا من
نفس واحدة. قال تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً". كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا. ليس هناك في اللغة العربية إنسان وإنسانة، بل هناك إنسان فقط، أما كلمة إنسانة فلا وجود لها في لغة العرب. الإنسان يُطلق على المذكر والمؤنث، ويُطلق على الرجل والمرأة، وفي هذه الآية "من نفس واحدة" فيها مساواة. عندما حكى الله قصة الخلق في سورة البقرة، وعندما تكلم عن موقف الإنسان
آدم وحواء من الشيطان، وموقف الشيطان إبليس من الإنسان، قال تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾، إذاً هذه الصورة العقدية يحكي فيها ربنا سبحانه وتعالى المساواة بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة وفي التعرض. في كتب أخرى يذكرون أن حواء هي التي اتفقت مع إبليس على آدم، وبذلك فهي عين الشيطان ويده ووسيلته، فهي الشيطان الرجيم. أما الإسلام فيرى أن الشيطان
أزلَّهما، الشيطان تسلط عليهما، التكليف واحد والحقوق واحدة والواجبات واحدة، ولا فرق بين الرجل والمرأة في هذا المجال. أزلهما الشيطان عنها فأخرجهما. الاثنين مما كان فيه، وربنا سبحانه وتعالى قال: "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، هذه المقولة جاءت للاثنين معاً "فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". مساواة عقل فارق بين المساواة والتساوي، يقول ربنا سبحانه وتعالى: "ولا تتمنوا ما فضل الله به
بعضكم على". للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال"، لأن هذا التشبه فيه خلط بين الوظائف والخصائص والمراكز القانونية، ولكن أصل الخلق واحد وأصل التكليف واحد والحقوق واحدة والواجبات واحدة. فهناك فرق بين المساواة والتساوي، هذه عقلية فارقة، عقلية فارقة نرى فيها ترتيب الأولويات، عقلية فارقة نرى فيها أنها تفرق بين المعاني وتدرك كل معنى على حدة، عقلية فارقة أدت
بنا إلى فهم عميق ومتسق للقضايا. التساوي لا وجود له، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ليس منا من لم يوقف كبيرنا ويرحم صغيرنا قضية أنني لا أفرق بين الكبير والصغير ولا بين الرجل والمرأة. ربنا فرق وقال الرجال قوامون على النساء، إذاً ليس هناك تساوٍ ولكن بما فضل الله بعضهم على بعض. إذاً فهناك مساواة ولكن ليس هناك تساوٍ، ليس هناك تساوٍ في المراكز القانونية ولذلك رأينا اختلافاً في... توزيع الميراث مرة الرجل ضعف المرأة ومرة الرجل مثل المرأة والمرأة مثل الرجل ومرة المرأة
أكثر من الرجل ومرة المرأة تأخذ والرجل لا يأخذ ومرة الرجل يأخذ والمرأة لا تأخذ. نظام ليس هناك تساوٍ ولكن هناك مساواة في أصل الخلقة وفي التكليف وفي الحقوق والواجبات وليس هناك تساوٍ في المراكز. القانونية والخصائص والوظائف وهذه نفسية وعقلية فارقة، ولذلك نستطيع أن نقول أن من مكونات العقل المسلم ترتيب الأولويات. نستطيع أن نصوغ ذلك بطريقة أخرى ومن مدخل آخر فنقول إن هناك عقلية فارقة، والعقلية الفارقة من صفات ومكونات العقل
المسلم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.