مكونات العقل المسلم | 27 | اعتبار الإجماع | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم التي نكتشف بها كيف يفكر، كيف يواجه الحياة، كيف ينقل الإسلام للآخرين، كيف يفهم النص الشرعي الشريف، كيف يفسر التاريخ، كيف يستفيد منه، وكيف يراعي مستقبله، وكيف يتعامل مع حاضره. من مكونات العقل المسلم أنه دائماً يراعي هُويّة الإسلام، وهُويّة الإسلام، كلمة هُويّة جاءت من "هو هو"، ولذلك فهي بالضم هُويّة، ولا تقل هَويّة لأنها أتت من الضمير "هو هو"، وتكرر الضمير
لأن معنا أمرين: الأمر الأول هو ما قام في الذهن، والأمر الآخر هو ما كان في الواقع. والخارج خارج الذهن، فالصورة التي في الذهن تطابق الحقيقة الواقعية التي في خارج الذهن من الدنيا التي نعيش فيها. هو في الذهن هو في الخارج، هو في الخارج هو في الذهن. ومن هنا الهوية معناها الحقيقة، ومعناها أيضاً تطابق هذه الحقيقة مع ما قام في الذهن. هوية الإسلام حقيقة الإسلام. حقيقة الإسلام ينبغي إذًا أن تكون هي المشترك الذي بين أهل القبلة، فما
هناك سنة وشيعة وصوفية وسلفية، وهناك طوائف كثيرة عبر التاريخ، وفي العصر الحاضر هناك مشارب كثيرة، هناك مداخل كثيرة. فأين الإسلام؟ أين هوية الإسلام؟ إن هوية الإسلام هي الإجماع الأصولي، والإجماع الأصولي هو اتفاق المجتهدين من الأمة. محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على أمر شرعي هذا هو الإجماع. والسؤال الذي يسأله بعض الناس: هل هذا الإجماع قد تحقق وهل هو ممكن أن يتحقق؟ فنعم تحقق ولذلك فهو يمكن أن يتحقق. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا تجتمع أمتي على ضلالة"، ويقول: "لا لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة. إذا هذه الطائفة التي على الحق هي في الأمة، فإذا أجمعت الأمة فإن هؤلاء منهم. وعلى ذلك فإن رضا الله سبحانه وتعالى على ما اتفق عليه المسلمون يكون لأن الطائفة التي رضي الله عنها ووفقها وجعلها طائفة الحق ستكون من أولئك الذين أجمعوا الإجماع الثابت في هذه الأمة ومزية في هذه الأمة، وهو يمثل هوية الإسلام. والعقل المسلم لم يستطع أن يخرج متجرئاً على هوية الإسلام لأن العقل المسلم
عقل عاقل، والعاقل خصيم نفسه، ولا يأتي العاقل بالمتناقضات وإلا لكان أتى بالهذيان، ولذلك لو أن... العقل هذا نقض الإجماع لنقض هوية الإسلام حتى لا تعود للإسلام هوية، وهو أمر مرفوض بكل المقاييس، مرفوض من ناحية أن المسلم لا يكون مسلمًا إلا إذا تمسك بحقيقة الإسلام، ولذلك فلا يجوز له أن يخرج على الإجماع خاصة بعدما استقر. وهنا يأتينا الكلام، يأتينا شخص ويقول إن سيدنا. الإمام محمد بن حنبل يقول: من ادعى الإجماع فهو كاذب. نعم، لأنك لو ادعيت الإجماع بلا دليل ولا برهان
وفي مسائل قد اختلف الناس فيها، فمن أدراك أنهم ربما اختلفوا. هذا في المسائل النظرية الظنية الدقيقة، ولكن الإجماع سنضرب له الأمثلة حتى نتبين أنه قد وقع، وما دام قد وقع. إذًا فهو ممكن عقلًا وشرعًا وفعلًا، حيث إن الإجماع على نوعين: إجماع يعتمد على النص، وفائدته أنه يمنع من استنباطات جديدة ويكون معنى الكلام واحدًا وليس له معنى ثانٍ، والإجماع الذي لم
يعتمد على النص يكون كاشفًا عن دليل الإجماع، إما أن يكون مانعًا أو كاشفًا مانعًا لاجتهاد جديد. إذا كان معتمداً على النص أو كاشفاً عن دليل لم يُذكر، إذا كان ليس له دليل مخصوص، وفي كل من الأمرين سواء كان الإجماع كاشفاً عن الدليل أو سواء كان الإجماع مانعاً للمجتهد أن يمارس اجتهاده، في كل من الأمرين فإن الإجماع مأخوذ به. هيا بنا نضرب بعض الأمثلة للإجماع. حتى يتضح الحال، لأنه بضرب المثال يتضح
الحال، أجمعت الأمة على أن الصلاة واجبة، لم نرَ أحداً من الأمة أبداً يقول إن الصلاة ليست واجبة. أجمعت الأمة على أن الصلاة فرض عين، ولذلك فهي فرض على المسلم البالغ سواء كان ذكراً أو أنثى، سواء كان عبداً أو حراً، سواء كان... مقيماً أو مسافراً سواء كان صحيحاً أو مريضاً، ولذلك فهي فرض عين. أجمعت الأمة على أن الصلوات المفروضة هي الصلوات في اليوم. أجمعت الأمة على أن الظهر أربع ركعات. أجمعت الأمة على أن هذه الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وقيام وسجود وقيام
وتحيات وسلام وتكبير في البداية. أجمعت الأمة على أنه لا بد من الوضوء وأن هذا الوضوء قبل الصلاة، لم يقل أحد من المسلمين أبداً أن الوضوء بعد الصلاة. أجمعت الأمة على حرمة الخمر وحرمة الزنا وحرمة شهادة الزور وحرمة الكذب وحرمة القتل وحرمة السحر وحرمة عقوق الوالدين. أجمعت الأمة على وجوب الصيام وأن الصيام لشهر رمضان وأنه... هذا الصيام هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج وأن أجمعت الأمة على هذا، ولو جلسنا نعدّ مواطن الإجماع التي
تمثل هوية الإسلام لطال بنا المقام. إذاً هناك إجماع، فهل يستطيع أحد أن يستنبط من قوله تعالى: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" أن الوضوء يكون بعد الصلاة؟ النص... من الناحية اللغوية والتحليل اللغوي بالأدوات اللغوية يحتمل أن يكون كذلك، ولكن لم يقل أحد من المسلمين هذا المعنى ولن يقوله. أنه إذا "قمتم" -فعل ماضٍ- إلى الصلاة، يعني انتهت الصلاة، فللتعقيب "اغسلوا"، فيكون الغسل أتى بعد الانتهاء من الصلاة. لم يقل أحد هذا ولن يقول أحد هذا. وذلك
لأن العقل المسلم يراعي هوية الإسلام يعني يعتبر الإجماع. خرج علينا بعض الظرفاء من السكارى والمدمنين ويقول: قوله تعالى في شأن الخمر "فاجتنبوه" يعني ضعوه في جانبكم. هذا الفهم لـ"فاجتنبوه" أن تضعه في جنبك، لعل هذا الفهم يعتمد على استعمال الأدوات اللغوية والألفاظ اللغوية، لكنه يعارض هوية الإسلام حيث... أجمع المسلمون جميعاً سلفاً وخلفاً شرقاً وغرباً على حرمة الخمر، واختلفوا في نجاستها هل هي نجسة أو طاهرة، لكن شربها أُجمع على أنه
حرام. لا يأتين أحد من الناس بعد ذلك ويستدل على إباحة الزنا مثلاً ويقول أن الله سبحانه وتعالى لم يستعمل كلمة حرام في الذنب بل قال ولا. لا تقربوا الذنب لكنه لم يحرمه. لم يقل أحد من المسلمين هذا، ولا يجوز له أن يقول، ولا يستطيع أن يقول ذلك، وذلك لأن مكون العقل المسلم يراعي هوية الإسلام، ويعتبر الإجماع هذا مكوناً مهماً من مكونات العقل المسلم. ينبغي إذا ما أردنا أن نتفهم بعمق المسلم وعقليته. وينبغي إذا أردنا أن نبني عقلية أبنائنا أن نلتفت إلى هذه المكونات، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.