مكونات العقل المسلم | 28 | اعتبار المآلات | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم، نرى أن من مكونات العقل المسلم أنه دائماً يراعي المآلات، مآلات الأفعال. وهو يسير في الحياة فإنه يحسب حساب الحاضر ويستفيد من التاريخ والماضي، ولكنه أيضاً يتصور تصوراً مبدعاً. لما يمكن أن يحدث في
المستقبل هذا الفعل إذا ما فعلته، وبناءً على تجاربي الماضية ودراستي التاريخية ومعرفتي بطبائع الأشياء وبطبائع الأشخاص وبطبائع الأحداث، وبالتالي فبطبائع الواقع، ما الذي سوف يترتب، وما الذي سينتج من فعل هذا الآن، وما الذي سيؤول إليه الأمر، ومن هنا جاء المآل، إذاً المستقبل. يمكن أن نطلق عليه المآل والحاضر يمكن أن نطلق عليه الحال،
ولذلك مراعاة المآل وإدراك واقع الحال كلاهما من مكونات العقل المسلم. العقل المسلم إذاً يسير بعد دراسة وعلم، ولذلك يعتقد المسلمون أنهم يهتمون بالعلم جداً وأن العلم عندهم ليس قاصراً على العلم التجريبي ولا على العلم النقلي ولا على العلم الحسي ولا على العلم العقلي بل أنه يشمل ذلك كله فتراهم يهتمون اهتماماً بليغاً بالعلم، هم يريدون أن يعرفوا الشيء على ما هو عليه، ومن أجل ذلك رأينا
المسلمين عبر القرون وهم يسجلون التاريخ، يسجلون التاريخ في أشخاصه وفي أحداثه، ويسجلون التاريخ في أحواله أيضاً، نراهم قد ألفوا في علم الرجال ونراهم قد ألفوا في الدول المتتالية والسلطان، ونراهم قد ألفوا في تاريخ العمران، ونراهم قد ألفوا في تاريخ الأفكار والفرق والملل والنحل والمذاهب والأديان، نراهم قد ألفوا في كل ذلك لأنهم يهتمون اهتمامًا بليغًا بما سبق وما مضى، ولكن من أجل أن يستنبطوا منه العبرة وأن
يستخلصوا منه. الهداية قال تعالى في شأن الأنبياء السابقين: "لقد كان في قصصهم عبرة" وقال: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده". أمرنا ربنا سبحانه وتعالى إذاً أن نعي الماضي، والنبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن حبان وهو يحكي لنا من حكم آل داود أنه كان منها أن يكون المؤمن عالماً. بزمانه مدركاً لشأنه. العلم بالزمان يعني العلم بشخص ذلك الزمان، العلم بعلاقات ذلك الزمان، العلم بأحداث ذلك الزمان، بفهم لما يحدث على الساحة العالمية.
ثم بعد ذلك ينبغي أن يدرك حقيقة نفسه: هل هو في حالة قوة؟ هل هو في حالة ضعف؟ هل صورته صورة طيبة في العالمين أم أنها... مشوهة. ما أسباب هذا التشويه؟ أين هو الآن في المشاركة العالمية في الحضارة العالمية؟ وعندما يفعل فعلاً أو يختار اختياراً أو يتبع منهجاً فإنه يراعي ما الذي سيكون في المستقبل. إذاً، مراعاة المآل التي تحدث عنها الفقهاء وجعلوها ضابطاً من ضوابط الفتوى وجعلوها تتحكم في الفقيه عندما يُعطي أحكامه وربطوها. بما يُسمى بسد الذريعة، هذه دراسات يمكن أن تُلحق ويمكن
أن تستفيد أيضاً بدراسات المستقبل. هناك دراسات الآن تُسمى دراسات المستقبل، ودراسات المستقبل ينبغي أن تُبنى على حقائق، بعضها حقائق إحصائية، وبعضها دراسات تاريخية، وبعضها أهداف وخطط إدارية يجب علينا أن نضعها من أجل أن نصل إليها. لم تعد المآلات. في دراسات المستقبل لم تعد مجرد تنبؤ بما سيحدث، بل أصبحت أيضاً تحكماً فيما سيحدث، وأصبحنا أيضاً نريد من دراسات المستقبل أن تغير الواقع وليس أن تصف
الواقع فقط. ولكن فكرة الاهتمام بالمآلات وأن نضعها في تفكيرنا وفي اهتمامنا هي أمر فقهي اهتم به فقهاء المالكية كثيراً في كتبهم وفي اهتم الأصوليون كثيراً بقضية مراعاة المآلات. عندما يفكر الفقيه فإنه يفكر في استنباط حكم شرعي، هذا الحكم الشرعي يصف فعلاً بشرياً. الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالطلب أو بالتخيير، سواء كان طلب
فعل أو طلب ترك، وسواء كان جازماً أو غير جازم، فهذه أربعة أحكام. ثم التخيير يأتي الحكم الخامس وهو الإباحة، خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، فعل المكلف: الصلاة، الصيام، السرقة، الزواج، البيع، أي فعل من أفعال المكلف، ثم نصفه بأن هذا واجب وهذا مندوب وهذا حرام وهذا مكروه وهذا مباح. عندما يأتي الفقيه فأول ما يفعل من أجل أن يعلم ويستنبط الحكم الشرعي. ليصف به فعلًا بشريًا هو أن يذهب إلى المصادر من الكتاب والسنة من أجل أن يلتمس فيها ومنها حكمًا، ثم بعد ذلك، بعدما توصل إلى الحكم، فإنه يفكر ما
الذي سيؤول إليه تنفيذ ذلك الحكم في الواقع، فإذا رأى أنه سيصل به إلى مفسدة وأنه يكر على الشريعة. بالبطلان فحينئذ يعلم أنه قد أخطأ وحينئذ يعلم أن شيئاً ما من استنباطه يجب أن يتغير وحينئذ يغير طريقة تفكيره من أجل أن يصل لتحقيق المصالح من ناحية ومراعاة المقاصد من ناحية أخرى ومراعاة المآلات من ناحية ثالثة حتى لا نرى أن الدين يهدم نفسه مثال ذلك الذي حدث في قضية الزكاة تحدث الفقهاء
القدماء عن أن الزكاة شرعها الله لغرض ومراد إغناء الفقير من أجل أن يتحقق ما يمكن أن نسميه بالتكافل الاجتماعي، فنأخذ من أموال الأغنياء فنردها على الفقراء من أجل أن يخرج الفقير من دينه وأن يستوفي حاجته وأن يقوم بضرورياته هو ومن يعول من عائلة وأسرة. وأبناء وزوجة إلى آخره، إذا كانت الزكاة مؤداها أن نُغني الفقير، قالوا إنه إذا كان إغناء الفقير هو المتبادل بين الناس من الذهب والفضة، فقد جاء وقت انعدم فيه الذهب والفضة
بين الناس. إذا قرأنا الكلام القديم وربطنا بين الزكاة والذهبية، هذا الربط الذي قد يكون صحيحًا في بعض العصور يمتلك الذهب والفضة كان يمتلك الغنى، والذي لا يمتلك الذهب والفضة لا يمتلك الغنى وهو معرض في أي وقت للأزمات الاقتصادية وللفقر. ولذلك خاطبنا من امتلك الذهب والفضة. فلما لم يعد الذهب والفضة هما وسيط التبادل بين الناس، حيث كان الذهب في صورة الدينار الذي يُضرب في الروم والفضة في صورة الدرهم التي تُضرب في فارس هي التي يتداولها البشر على وجه الأرض، ولذلك عندما يقول الإمام الشافعي والشافعية من بعده أن الزكاة قد تعلَّقت بالنقدين، وأنه
إذا لم يكن في ملك الإنسان نقود فلا زكاة عليه، لا يصلح هذا أن نطبقه في الورق النقدي (البنكنوت) الذي انفصل من الذهب لأن الفقيه الشافعي إذا فكر وقال: الآن لم يعد هناك ذهب وفضة، إذاً فلم تعد هناك زكاة، فمعنى هذا أن كل معاملات أهل الأرض باطلة، وكل شركات أهل الأرض باطلة، وليس هناك زكاة، لأن الشركة عند الشافعية يلزم فيها وجود الذهب والفضة، ولأن الزكاة لا بد فيها أن يكون هناك للذهب والفضة هذا الكلام لو قاله الفقيه في ذهنه وقبل أن يخرج به إلى الناس ينبغي عليه أن يسأل فأين الفقير في هذه المنظومة؟ ضاع
الفقير، وأين مقصد الشرع من حفظ النفس ومن حفظ المال ومن حفظ كرامة الإنسان؟ ضاع كل ذلك، وأين المآل؟ المآل أن ركن الزكاة سوف يزول. ولم يعد هناك زكاة على وجه الأرض لا يستطيع أن يخرج إلى الناس بهذا الرأي الفج القبيح الذي أهدر الزكاة، فماذا يفعل؟ يربط الزكاة بالمالية وليس بالنقدية، يقول: علة الزكاة ليست هي النقد كما نص عليها الإمام الشافعي ومن بعده من العلماء، الشافعي وغيره، ولكن هنا لا بد للفقيه... أن يقول إنّ الزكاة تعلقت بالمالية والأوراق النقدية، وهذا مال قطعاً، ولذلك لا بد علينا أن نخرج الزكاة، ولا بد علينا أن
نغني الفقير، وأن نقوم بحاجته، وأن نسدد ديونه، وأن نعالجه، وأن يتم التكافل الاجتماعي كما أراد الله سبحانه وتعالى. كل ذلك استلزم منه أن يفكر من أجل المآل فيعود من تلك العلة البسيطة التي كانت في زمن ما لا تؤثر في الحكم ولم تحدث فيها هذه المشكلة ويغيرها ويقول: "الزكاة لم تتعلق بالنقدين ولكن تعلقت بالمال، ولأن الله سبحانه وتعالى حينما يتعلق الأمر والغنى بالمال فإنه ما زال معمولاً به وما زلنا نطلب من الأغنياء ما داموا قادرين". وما دام هناك تجزئة للدفع فإننا نطلب من الأغنياء أن يؤدوا الزكاة ولو
من الأوراق النقدية تطبيقاً للركن من أركان الإسلام للفقراء. إن مراعاة المآل مكون من مكونات العقل المسلم. والسلام عليكم ورحمة