مكونات العقل المسلم | 29 | التجريد | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مكونات العقل المسلم ومن مكونات العقل المسلم أنه يقوم بعمليات التجريد، هو عقل لديه قدرة على التجريد. والتجريد عندما يمارسه المسلم وعندما مارسه فإنه مارسه بأساليب شتى، مارسه في فهم النص ومارسه في. تكوين القواعد الفقهية والضوابط وممارسته في الجمع بين الأدلة التي ظاهرها
التعارض وفي باب التعارض والترجيح من أصول الفقه، يمارس المؤمن المسلم بعقليته الفذة قضية التجريد حتى صار التجريد مكوناً أساسياً من مكونات تلك العقلية ويعبر عن هوية هذا العقل. كيف نفهم التجريد؟ بضرب المثال يتضح الحال من ناحية الفهم. النص مثلاً من ناحية فهم النص نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "دخلت امرأة
النار في هرة حبستها"، قطة صغيرة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وحينئذ يفكر المسلم وهو يفهم النص ويضع أمامه العلاقة التي تكلم عنها رسول الله صلى الله عليه. وسلم بين المرأة والهِرّ ويقول: طيب، أنا أريد أن أجرد حتى أفهم بعمق، من هي المرأة؟ هل هي امرأة مخصوصة؟ هل هي دعد التي حبست القطة وهي التي ستدخل النار دون سواها
من النساء؟ أم أن المرأة هنا تعبير ومثال للإنسان، فلو أننا حذفنا المرأة ووضعنا مكانها سعاد، نكون بصدد إلى ما يسمى بالشخصنة في التشخيص، لأن رسول الله تحدث عن امرأة، أي امرأة، ونحن هنا نحاول أن نختزل المرأة في امرأة واحدة اسمها سعاد، فهذا فيه تشخيص. أما التجريد على العكس، فهو أن أقول إن المرأة هنا إنسان طيب، والهرة عبارة عن
حيوان. هل هي هرة بعينها التي كانت هي حيوان، والتجريد معناه أن ألغي هذا، ولذلك فقد جردت الهرة فصارت حيواناً. التشخيص هو أن أجعل الهرة هي هرة معينة ماتت عند سعاد وكنا نطلق عليها "بس"، لكن إذا ألغيت الهرة وبلغت قضية الحيوان أكون قد جردت. إذاً هذه علاقة بين الإنسان والحيوان، الحيوان ينتمي إلى الأكوان، إذاً هذه بين الإنسان
والأكوان هذه العلاقة أُمرنا أن تكون على حد الرحمة ونُهينا أن تكون على حد القسوة. هذا نوع من أنواع التجريد أن أخرج في النهاية بحقيقة تقول: العلاقة بين الإنسان المسلم والأكوان هي الرحمة لا القسوة. وإذا تتبعت الأحاديث حديثًا وراء حديث أخرج بنفس النتيجة أنه دخلت امرأة بغي. من بني إسرائيل امرأة دخلت الجنة بسبب كلب وجدته عطشاناً فسقته، فأدخلها الله الجنة. إن العلاقة هي بين امرأة وكلب، فلنجرد المرأة إلى الإنسان والكلب
إلى الأكوان، وتكون الرحمة مطلوبة وسبباً في إدخال هذا الإنسان أو المرأة الجنة، والقسوة منبوذة، كما في الحديث الأول: "الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا الأرض يرحمكم من في السماء. أيضاً تبارك أمر بالرحمة لمن في الأرض، ومن في الأرض يشمل المؤمن والكافر وكذلك. وهل يشمل أيضاً الأكوان؟ هيا نذهب إلى العربية فنرى أن "من" تُطلق ويُراد منها ما اجتمع بين العاقل وغير العاقل إذا كان العاقل أكثر أو إذا كان التنبيه إليه أولى إذاً. هذا هو التجريد أن نحذف الشيء ونأتي بجنسه ونحذف
هذا الجنس ونأتي بجنسه إلى أن نفهم بعمق النصوص. إذا أيضًا فعلوا هذا في القواعد الفقهية، من أين أتوا بأن المشقة تجلب التيسير؟ ومن أين أتوا أن الميسور لا يسقط بالمعسور؟ ومن أين أتوا بقاعدة تقول هل العبرة في العقود في... ألفاظها أو بالألفاظ والمباني أو بالمقاصد والمعاني جمعوا مجموعة كبيرة جداً من الفروض وجردوها وهذا التجريد أدى إلى التقعيد فنظروا إلى أنه هنا قاعدة مثلاً "من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه" إذا
كانت المصلحة ليست في مراعاته فبدأوا يضعون التقعيد من التجريد فإنهم يأتون بالفرع ويفهمون منه أن الميسور لا يسقط بالمعسور، ويأخذون هذا المعنى المجرد ثم ينضم إليه نفس المعنى المجرد من فروع كثيرة بألفاظ كثيرة بأوضاع كثيرة، فيصلون في النهاية إلى القاعدة: يدخل المتكلم في عموم كلامه، هل يدخل المتكلم في عموم كلامه أو لا يدخل المتكلم في عموم كلامه؟ فيرى فرعاً وأن رجلاً قال هذا. البستان للفقراء ثم صار فقيراً، هل يدخل أو لا يدخل في الأكل من البستان؟ رجل قال: "كل
النساء السائرات في شارع كذا طوالق"، وكانت امرأته منهن، تُطلق أو لا تُطلق؟ وجمعوا مثل هذا حتى صاغوا القاعدة أن المتكلم يدخل في عموم كلامه. أو قاعدة أيضاً أن المتكلم لا يدخل في... عموم كلامه فصاغوها بصيغة السؤال: "هل يدخل المتكلم في عموم كلامه أم لا؟" هذا التجريد في فهم النصوص وفي التقعيد وفي التعارض والجمع أوصل المسلمين إلى حقائق عليا. لعلنا نفرد في حلقة قادمة إن شاء الله مسألة أن الطفولة توقف الأحكام وذلك بناءً على مفهوم التجريد، فالتجريد دائماً...
كان مكوناً أساسياً من مكونات العقل المسلم سواء في فهم النصوص أو في الفقه الإسلامي وفي عملية التقعيد والخروج بالأشباه والنظائر والقواعد أو في التعارض والترجيح. جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول مثلاً: "يا بني عبد مناف، لا يمنعن أحدكم من يطوف بهذا البيت في أي ساعة شاء". مِن ليلٍ أو نهارٍ أن يُصلي لله بعد الطواف ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر إلى غروب الشمس، وعند الغروب، وبعد الفجر إلى شروق الشمس، وعند الشروق،
وعند استواء الشمس في وسط النهار في قبة السماء. إذا كان هناك تعارض فلنجمع بينهما، كيف تكون هذه إنني في الكعبة بعد العصر طفت، وهناك نهي عن أن أصلي لأنني بعد العصر، ونهى رسول الله عن الصلاة، فكيف أفعل بركعتي الطواف؟ فيأتيني الحديث الآخر ويقول: "يا بني عبد مناف، لا يمنعن أحدكم أحداً طاف بالبيت أو من يطوف بالبيت أن يصلي ركعتين في أي وقت شاء". من ليلٍ أو نهارٍ، إذا كان فيه تعارض فلا بد من الجمع. هذا تجريد، يعني جرّدنا المسائل. كيف
نجردها؟ هل الله سبحانه وتعالى نهى عَبْرَ العالم واستثنى مكة، فيكون الاستثناء متعلقاً بالمكان؟ أو أنه نهى عن الزمان هذا بما يشمل مكة، ويقيّد حديث بني عبد المناف: "يا بني عبد المناف". فيكونوا استثناءً من الزمان يا بني عبد مناف، لا تمنعن أحداً طاف بهذا البيت أن يصلي ركعتين في أي وقت شاء من ليلٍ أو نهار. معناها إلا هذه الأوقات المكروهة التي سبق أن كرهتها عليكم. يفكر العلماء في مثل هذا ويخرج
الإمام الشافعي بعد تفكير عميق بقضية أن النهي سواء. في الزمان أو المكان للنافلة التي ليس لها سبب أو التي سببها يكون لاحقاً عليه، أما التي لها سبب سابق أو مقارن فيجوز الصلاة حينئذ. إذاً فتحية المسجد تجوز في هذه الأوقات، وركعتا الطواف تجوزان لأن الطواف سابق عليهما، وصلاة الكسوف تجوز لأن الكسوف مقارن، فيبقى يجوز. الاستخارة والاستسقاء لا يجوزان، والنافلة المطلقة التي لا سبب لها لا تجوز. فقد قسم السبب إلى
أربعة أقسام: سابق ومقارن ولاحق وليس هناك سبب. وأجاز في الحالتين ما كان سابقاً أو مقارناً، وحرّم في الحالتين الأخريين؛ لأن الصلاة المكروهة إذا اشتغلت بها لكانت حراماً وباطلة. وقال بمراعاة هذه الكراهة في والسبب عديم السبب تجريد هذا التجريد شغل بال المسلمين وكوَّن عقلهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته