مكونات العقل المسلم | 30 | الطفولة | أ.د علي جمعة

مكونات العقل المسلم | 30 | الطفولة | أ.د علي جمعة - التفكير المستقيم, مكونات العقل المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. ومع مكونات العقل المسلم، رأينا في الحلقة السابقة أن من مكونات العقل المسلم التجريد، ونرى أيضاً مع التجريد صفة أخرى وهي صفة العمق والاستنارة. صفة العمق والاستنارة تقول إن الإنسان هناك في أفكاره ومعلوماته. وإدراكاته ما هو سطحي وهناك
ما هو عميق وهناك ما هو مستنير. لاحظنا عند المسلمين وبناءً على قاعدة أو مكون التجريد لاحظنا قضية العمق والاستنارة وأنها مكون آخر من مكونات العقل المسلم. عندما ينظر أحدهم إلى ورقة الشجر ويراها خضراء مدببة فهذا اسمه التفكير السطحي، وعندما يضعها تحت المجهر وينظر... إلى عمقها وإلى تمثيلها الضوئي فهذا يُسمى التفكير العميق، وعندما يُربط ذلك بالله سبحانه وتعالى فهذا يُسمى التفكير المستنير. ومن
هنا رأينا بعض المسلمين وهو يؤلف الطب محراب الإيمان، لأنه كلما تعمق في دراسة الإنسان لا يسعه إلا أن يقول سبحان الله. ولذلك من مكونات العقل المسلم العمق والاستنارة. معناها ربط هذا الإدراك وهذه المعلومات بالله رب العالمين من التجريد ومن العمق ومن الاستنارة. نضرب مثالاً تطبيقياً بحالة الطفولة وبقاعدة تقول: "الطفولة توقف الأحكام"، وكيف توصل إليها العقل المسلم. العقل المسلم من شأنه التجريد ومن شأنه عدم الوقوف عند الظواهر
ومن شأنه جمع المعلومات والاستقراء ومن شأنه الربط بالله. رب العالمين حتى رأيناهم لا يبدأون كتابًا إلا ببسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ولا رسالة ولا خطاب ولا أي شيء إلا عندما يقدمون هذه مقدمة البسملة والحمد لله والصلاة على سيدنا رسول الله دائمًا في مقدمات الأعمال هكذا ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كل أمرٍ ذي شأن لا يُبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر، والرواية الأخرى بحمد الله فهو أبتر، والرواية الثالثة بسم الله فهو أبتر، وفيها نزاع هل هو حديث صحيح أو فيه خلاف. والأخير بسم الله، لكننا نراهم أنهم دائماً يربطون أعمالهم بالله، وهذه هي
الاستنارة وعدم الوقوف عند السطحي أو إذا جمع العقل المسلم ما يتعلق بالطفولة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يراه وهو يقول لفاطمة الطفلة: "ما لكم ومما لي؟ زهرة أشمها". يعني أن الكفار كانوا يلومونه لأنه يدلل ابنته ويحبها ويحملها ويحتضنها ويشعرها بالحنان والأمان، فيقول لهم هذه المقولة. ويُعَدُّ هذا الموقف موقفاً مهماً. كبيراً هذه الطفولة أثرت في نفسية الطفل حتى عندما كبرت وعندما جاءت قضية زواج سيدنا علي من بنت أبي جهل وهناك
روايات مختلفة تذكر أن أهل البنت ذهبوا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الروايات أن سيدنا علي هو الذي ذهب يستأذن وبعض الروايات أن السيدة فاطمة هي التي أخبرته، وفي بعض الروايات، أي إن هناك روايات كثيرة في هذا الموضوع، منها أن السيدة فاطمة خرجت بعدما سمعت بأن عليًا عليه السلام يفكر في زواج آخر، فذهبت إلى أبيها، الذي كان يحملها في مكة ويُشعرها بالحنان والأمان، وقالت له كلمة يقول الشُرّاح إنها كلمة عظيمة، أي غاضبة فخرج منها هذا الكلام ولم يكن من عادتها أن تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بهذه الطريقة ولكن طبعاً إذا تأملنا وجدناها أنها ابنة النبي صلى الله عليه وسلم. قالت فاطمة عليها السلام: "إن قومك يزعمون..." دخلت على النبي مباشرةً تقول له هكذا: "إن قومك..." يزعمون أنك لا تغضب لبناتك. لا يليق أن تقول هكذا لسيدنا رسول الله، لكن هذا من غضبها. وما الذي لا يليق؟ هذه العبارة الرقيقة، يعني هي أرفع من هذا، ولكن من شدة اضطرابها من أن الرجل سيتزوج وما إلى ذلك، وأن أمراً يُدبر في الليل وهي لا تعرف معلومات كافية، لأبيها عليه الصلاة والسلام: "إن قومك يزعمون أنك لا تغضب لبناتك". قال: "وما هذا؟" قالت: "إن علياً يريد أن يتزوج من
بنت أبي جهل". النبي صلى الله عليه وسلم يقوم ويذهب ويخطب في الناس: "إن علياً... إلا أن فاطمة بضعة مني" وفي رواية: "مضغة مني"، "وإذا كان ابن أبي..." طالب يريد أن يتزوج فليطلقه، فإنه يسيء إلى الماء كما أساء إليها، وعرف الناس هذا، وقال علي عليه السلام: "لا أفعل ما تكره يا رسول الله ولا ما تكره فاطمة". هذا من الطفولة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الأطفال حتى أن تسعة من الأطفال بالوا عليه صلى الله عبد الله بن الزبير عندما يتبول الطفل الأول أو الثاني، كان النبي عليه الصلاة والسلام لا
يتضايق أبداً، يعلم الناس الحنان، وكان يفرح بأنه يحمل الطفل، فظل يعلم المسلمين هذه الرحمة. كان صلى الله عليه وسلم يأخذ بنات بني النجار بيده، فتذهب إحداهن به حيث تشاء. حيثما شاءت في المدينة، هذا قائد الأمة، هذا نبي العالم، هذا سيد المرسلين، يعني ليس أنه لا توجد فضة للبنت هكذا، ولكن الطفولة توقف الأحكام. النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون عنده درس، قد يكون عنده لقاء، قد يكون عنده وفد، قد يكون عنده كذا، يعني الأمور قد تكون. في مصلحة معاشه وكلها أمور مهمة، النبي صلى الله عليه وسلم كان سيد الأولين والآخرين والمؤمنين
والمرسلين والنبيين، وكان مثالاً لم يكن عنده وقت للغو ولا للحشو في الزمان، ولكنه يعلمنا أن هذا أمر مهم أن نجعل الطفولة توقف الأحكام. النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة الجمعة. هي من أركان الصلاة وعدّها بعضهم أنها جزء لا يتجزأ من الصلاة، فيرى الحسن أو الحسين -رضي الله عنهما- يخرج من البيت متعثراً في ثيابه، فيقول: "إن من أولادكم فتنة"، وينزل ويترك الخطبة التي هي فرض، ويحمل
الطفل ويعطف عليه. إذاً هذا الطفل سيشبع حناناً ويشعر بالأمان. الطفولة توقف الأحكام، فواجب الخطبة وهي واجبة وركن من الصلاة أوقفها النبي من أجل ذلك الطفل. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى فسمع بكاء طفل تجوز في صلاته، يعني أسرع في صلاته حتى لا تنشغل أمه. الصلاة هذه فرض ولها أركان، لكنه يسرع فيها ويوقف هذا الحكم لأن الطفل بكى. إذا كنتُ في الصلاة وكنتُ راكعاً وجاء أحدهم من خارج الصلاة وقال
إن الله مع الصابرين - بعض الناس يفعل هكذا يعني ابقَ مستمراً في الركوع - أو قال أيها الإمام أخِّر الركوع، فأطاعه الإمام وأخَّر بناءً على أمر شخص خارج الصلاة وليس داخل الصلاة، فإن بعض الأئمة يُبطل صلاة ولكن عندما يكون طفلاً والطفل خارج الصلاة، فإن مراعاة توقف الأحكام تجعلنا نراعي الطفولة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يعلو ظهره أمامة بنت السيدة زينب الكبرى بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعلو ظهره الحسن أو الحسين فيطيل السجود، فيُسأل:
"يا رسول الله، أطلت السجود؟" يعني هل السجود أصبح هو السنة أن نطيل هكذا؟ قال: لا، ولكن كان ابني على ظهري فأردت أن أطيل حتى يقضي حاجته ويلعب كما يشاء. ما هذا! الطفولة توقف الأحكام. بكاء الصبي يجعلنا نتجوز في الصلاة، والطفل يجعلنا نقطع الخطبة، والطفل يجعلنا نطيل السجود، والطفل يجعلنا نترك أعمالنا. أجله والطفل يجعل وهكذا والطفل يجعلنا نخرج عن المألوف لأنه لم يكن من المألوف في أهل مكة أن يدللوا الأطفال فيرد عليهم زاهرة اسمها
ما لكم ومالي ولما جاء الأقرع بن حابس فوجد النبي صلى الله عليه وسلم يهدهد الحسن أو الحسين فقال والله يا محمد إن لي عشرة من الولد ما فعلت بواحد منهم ما تفعل. قال: وماذا أفعل إذا كان الله قد نزع الرحمة من قلوبكم؟ حسناً، هذا الأقرع بن حابس كان فيه شر وفسق وشيء من النفاق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء الأقرع هذا تجهّم، فإذا دخل عليه... بشاشة وهشاشة له لأنه رئيس قومه، لأنه يعني يتألف
قلبه. رأيتك هكذا قبل أن يدخل، ثم بعد أن دخل تبسمت له. قال: "إن شر الناس يا عائشة من تتقينه من أجل فُسقه". الأقرع بن حابس هذا، بدلاً من أن يجامله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسكت حتى يتقي شره. قال له: ماذا أفعل إذا كان الله قد نزع الرحمة من قلوبكم لما تعلق الأمر بالأطفال؟ التجريد والتعمق والاستنارة والربط بالله رب العالمين هي من مكونات عقل المسلم. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.