مكونات العقل المسلم | 6 | العلم | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مكونات العقل المسلم هذه المكونات: العلم، فالمسلم يهتم اهتماماً بليغاً بالعلم، ويشغل العلم عنده مساحة كبيرة في معناه وطبيعته، في مصادره، في أدواته، في منهجه، فيما يترتب عليه من فهم للإنسان والكون. والحياة وما بعد ذلك وما قبل ذلك. أما أهمية العلم في حياته فمأخوذة من قوله تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". والعلم
مأمور به، ويتكلم ربنا سبحانه وتعالى عن طبيعته وأنها في ازدياد دائم فيقول: "وقل رب زدني علماً". وعلى ذلك فالمسلم يطلب العلم مع المحبرة إلى... المقبرة ومن المهد إلى اللحد وبصورة مستمرة، ويُؤخذ من هذا أن العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة، ويُعرف أن العلم إنما هو في كل المجالات، فهو الإدراك الجازم المطابق للواقع الناشئ عن دليل كما عرَّفه علماء المسلمين. "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا"
أيَّ علمٍ ولذلك جاءت منكرة ولم يقل العلم حتى يكون الألف واللام للعهد الذهني أو الحضوري بل قال من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً يسر الله له طريقاً أو سهل الله له طريقاً إلى الجنة. العلم بهذا المفهوم يؤدي إلى التواضع وفوق كل ذي علم عليم. العلم له أدواته ومصادره ومن مصادر. العلم هذا الكون الذي يحيطنا وأيضا الوحي الذي أنزله الله سبحانه وتعالى إلينا من أجل أن نتعلم فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب
عليه إنه هو التواب الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فذكر القراءة مرتين قراءة للكون المنظور وقراءة للكون أو الكتاب المسطور وكلاهما من عند الله، هذا من عالم الخلق وهذا من عالم الأمر، ولذلك فلا يتناقضان أبداً. ولذلك لم يعرف المسلم في تاريخه التناقض بين الدين وبين العلم بصورته الحديثة ولا بصورته العصرية، بل إنه وجد تطابقاً بين الوحي وبين العلم. هو الذي درج عليه المسلمون يأخذونه من
قوله تعالى "الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان" يأخذونه من قوله تعالى "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" فما هذا العلم الذي يكون العقل المسلم؟ العلم يطلق بإطلاقين: إطلاق عام وهو على كل إدراك، والإدراك هو حصول صورة الشيء في الذهن، فالإنسان يستعمل ذهنه وهو قابل لاستقبال الصور عن طريق الحواس، وهذه الصور المحيطة به تنطبع في ذهنه فيكون ذلك إدراكاً. والإدراك بهذا المعنى ينقسم إلى قسمين: قسم
هو إدراك للمفرد ويسمونه تصوراً، وقسم هو إدراك للنسبة أو للجملة المفيدة ويسمونه تصديقاً. إذاً فالعلم بالمعنى المطلق هو مطلق الإدراك الذي إلى التصور والتصديق، هذا العلم الذي هو مُدرَك، إما أن يحصل في ذهن الإنسان بصورة يقينية قطعية، وإما أن يحصل بصورة غير يقينية، أي غير قطعية. يعني إما أن يحدث بنسبة مائة في المائة، أو بأقل من ذلك. فإذا كان بنسبة مائة في المائة فيسمى قطعياً، وإذا كان أقل من ذلك يُسمى غير قطعي، وغير
القطعي هذا قد يكون ظناً أو شكاً أو وهماً. الظن تراه أكثر من خمسين في المائة، ولذلك يُعرِّفونه فيقولون: إدراك الطرف الراجح. وواحد وخمسون في المائة أرجح من تسعة وأربعين في المائة لأنها أكثر، ويُسمونه الظن. فإذا بلغ الظن درجات عُليا كالتسعين وما فوق التسعين. يسمونه الظن الغالب أو الظن الراجح، وأما أن يكون خمسين في المائة فهنا يسمونه الشك وهو التردد بين الأمرين، وإذا كان أقل من الخمسين بالمائة فإنه يكون إدراكاً للطرف المرجوح
وهنا يسمى وهماً. فغير القطعي ينقسم إلى الظن والشك والوهم، أما القطعي فهو إدراك قطعي يعني يشعر فيه الإنسان بأنه الشيء وهو بوضوح في ذهنه مائة في المائة هذا ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مطابقاً للواقع وإما أن يكون غير مطابق للواقع، فإذا كان مطابقاً للواقع فهو الاعتقاد الصحيح، وإذا كان غير مطابق للواقع فهو الاعتقاد الفاسد. الإنسان إذا
كان عنده اعتقاد وهذا الاعتقاد مطابق للواقع فإنه يكون اعتقاداً صحيحاً، فإذا كان عنده يقين بشيء ما لكنه مخالف للواقع، شخص مثلاً عنده يقين بأن الكرة الأرضية لا تدور حول نفسها، فإنه يكون عنده اعتقاد ويقين ولكنه غير مطابق للواقع، فيكون اعتقاداً فاسداً. هذا الاعتقاد الذي هو مطابق أو غير مطابق ينقسم إلى قسمين، أما الاعتقاد المطابق الصحيح فينقسم... إلى قسمين؛
إما أن يكون وهو مطابق للواقع نشأ عن دليل أو نشأ في نفس الإنسان عن غير دليل. هناك ما هو نشأ عن دليل وبرهان، وهذا يُسمى العلم مرة أخرى بإطلاق خاص، أو أنه لم ينشأ عن دليل وإنما نشأ عن تقليد شخص وثق في آخر فقلّده. إذاً فعندي هذا المطابق ينقسم إلى قسمين: قسم نشأ عن دليل، وقسم نشأ عن غير دليل. فالأول يسمى علمًا، والثاني يسمى تقليدًا. العلم بهذا المعنى الخاص هو الإدراك الجازم
المطابق للواقع الناشئ عن دليل. هكذا هو تعريف العلم عند علماء المسلمين. إذًا المسلم يسعى بتحصيل ذلك العلم أن يكون جزمًا وأن يكون. هذا العلم مطابقٌ للواقع وأن يكون هذا التطابق قد نشأ عنده عن برهانٍ ودليلٍ. عقل المسلم هكذا ومكوّن بهذه الطريقة. العلم الذي هو مطلق الإدراك نسمي هذا العلم في جزئياته بالمعلومات. فهناك معلومات كثيرة، لكن هذه المعلومات منها ما هو قطعي جازم
ومنها ما هو غير جازم كما رأينا، والجازم... أمّا مطابق أو غير مطابق، والمطابق إمّا قد نشأ عن دليل أو لم ينشأ عن دليل. المسلم في أصل تكوين عقله يريد هذا العلم الأخير: الإدراك الجازم المطابق للواقع الناشئ عن دليل، ولذلك لا يلجأ إلى التقليد إلا إذا فقد الدليل، لكنه إذا كان يمكن له أن يحصل الدليل فهو... أعلى من التقليد، ولذلك كان الاجتهاد عنده الذي هو يسعى لتحصيل المعلومات ويصل بها إلى الجزم المطابق، ولكنه نشأ عن دليل
أعلى درجة عند الله وعند الناس من الذي هو تقليد. لكن التقليد قد يكون ضرورة لأنه ليس كل أحد يعرف كل شيء بالبرهان والدليل، إنما المسلم يحترم هذا النوع. من أنواع المعرفة، ولذلك فهو يحترم أهل العلم "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، ولذلك فهو يرفع أهل العلم درجات "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"، ولذلك فهو يعتمد دائماً ويسأل دائماً عن العلم في كل المجالات، وأول مجال يسأل فيه عن العلم إنما هو دينه. ولكنه
أيضاً يسأل عن العلم في هذا الكون، في هذه النفس، في التاريخ، وفي كل شيء يريد أن يحصِّله. العلم مكوِّن أساسي من مكونات العقل المسلم. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.