مكونات العقل المسلم | 8 | المطلق والنسبي | أ.د علي جمعة

مكونات العقل المسلم | 8 | المطلق والنسبي | أ.د علي جمعة - التفكير المستقيم, مكونات العقل المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع مكونات العقل المسلم نرى أنه من مكونات العقل المسلم قضية إيمانه بالإطلاق وبالنسبية. هناك مطلق ولذلك فهو يؤمن بالله لأن الله سبحانه وتعالى مطلق لا يحده حد لا يحويه مكان ولا يحتويه زمان. سبحانه وتعالى مفارق لهذه الأكوان، ولذلك فلا بداية له ولا نهاية له، فهو الأول والآخر، وليس هناك حد لقدرته، فهو
على كل شيء قدير، وهو سبحانه وتعالى تام العلم، ولذلك لا مزيد على علمه، فهو يعلم الغيب لأنه لا زمن حوله، لأنه لو فرضنا أن الله يزداد والعياذ بالله. تعالى ولله المثل الأعلى علماً كل يوم لكان نسبياً وليس مطلقاً، ولكان يحده الزمان، والله ليس كذلك، والله مفارق عن الأكوان، وهو مطلق، وليس هناك زمان عنده، ولذلك هو يرى الماضي والحاضر والمستقبل الآن رؤية واحدة، إنما لو نظرت إلى هذه العصا ولله المثل الأعلى الآن نظرة واحدة كلية
من هنا بداية الزمان ومن هنا نهاية الزمان وأنا أنظر مرة واحدة إلى هذا الشيء. الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الأكوان وهو خارج هذه الأكوان وهو لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وهو سبحانه وتعالى لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون كامل القدرة. كامل العلم كامل الإحاطة ليس هناك شيء غامض ولا بد إذاً أن نؤمن بالمطلق. عندما جاء نيتشه دعا إلى النسبية المطلقة فكل شيء نسبي. النسبية المطلقة في الحقيقة أمر ينقض نفسه من داخله، يعني النسبية المطلقة
فيها ما ينقضها من داخلها لأن معنى النسبية المطلقة أنه ليس هناك حقيقة. ليس هناك حق، ليس هناك صح وغلط، إذا كان الكون كما تراه، هذه هي النسبية المطلقة. طيب، أنا أرى أن الكون له إله. قال: حسناً، هذا ما دام عقلك يقول أن الكون له إله، إذن الكون له إله، يعني عندك هذه نسبية ظهرت الآن. وكلام أنت قلت لي: لا، أنا أرى أن... الكون ليس له إله. فقال: كلاكما على صواب، أنت صحيح وهو صحيح، كل واحد عنده شيء فهو
يعيش فيه. فالكون كما تراه. أرى أن هذا الكون باقٍ، أرى أن هذا الكون فانٍ. الاثنان صحيحان. عش كما تريد. طيب، يعني لو اتفق بعض الناس على أن الكذب ممدوح، قال: يكون... ممدوح: ولو اتفق آخرون على أن الكذب خطأ وقبيح، قال: يبقى خطأ وقبيح. وهكذا النسبية المطلقة، وينكرون المطلقة في حين أن النسبية المطلقة نفسها اشتملت بهذا الشأن على مطلق، وهذا المطلق هو النسبية المطلقة. لأنه تصبح هناك من أجل أن نعرف الواقع لا بد أن نؤمن بالنسبية المطلقة، إذاً فالنسبية.
المطلقة هي أحد معاني الإطلاق فانهدمت نظرية النسبية المطلقة من أقرب طريق. طيب المؤمن وهو يقول أن هناك إطلاقاً قال أن الله مطلق سبحانه وتعالى، ولذلك أؤمن بأنه خارج الزمان والمكان. كذلك مثلاً يؤمن باللغة. من الذي قال أن هذه التي فوق السماء وهذه التي تحت الأرض وهذه شجرة وهذه... بقرة وهذه حجرة وهذه عصاه وهذه. مَن الذي قال هذه اللغة بصورة نسبية أو مطلقة؟ يعني هي جاءتني من الآباء موروثة من الآباء، فهل هذا لازم علي أن أسمي ما فوق
سماء؟ لنفترض أنني سميت هذه صاحبة الكواكب والشمس والقمر أرضاً، وسميت الأرض موزة، وسميت الشجرة بقرة، ماذا سيحدث؟ ما الكون كما أراه، آه هذه تجري فيها، إنها تصبح قد فقدت اللغة وظيفتها. وظيفة اللغة، ما هي وظيفة اللغة؟ إنها تعبر عما في ذهن المتكلم حتى يصل إلى أذن السامع فيفهمه، فيحصل التبادل البشري بين الناس. فالاستعمال من صفة المتكلم، والحمل من صفة السامع، والوضع قبلهما. العقلاء يقولون هكذا أن... اللغة موجودة من أجل الأداء
والتلقي، فأنا أؤدي وأعبر عما في نفسي وأذكر الأخبار والحقائق والأفكار، فيسمعها السامع ويترجمها في ذهنه إلى معانٍ فيفهمني، ونتفاهم بعد ذلك شيئاً فشيئاً. لكن عندما يصل الأمر إلى النسبية المطلقة، فسوف ينقطع التفاهم بين البشر في صورته الحادة. هكذا المؤمن وهو يؤمن بالمطلق، هل... ينكر أن الدنيا تشتمل على نسبي؟ لا طبعًا. اختلاف الآراء فيما هو ظني ونسبي. أنا أظن حكمًا معينًا شرعيًا بأن لمس المرأة ينقض الوضوء، ومجتهد آخر يظن أنه لا ينقض الوضوء. هذا نسبي، ولذلك
فالمؤمن يؤمن بالإطلاق وبالنسبية معًا، كل في موضعه. الإطلاق مثل النظم الأخلاقية، سيظل الكذب حرامًا إلى... يوم الدين وإلى نهاية العالم سيظل القبح ننفر منه، وسيظل الجمال تطمئن له النفس وترتاح، ويظل الصدق مفخرة للصادق. إذاً فالنظام الأخلاقي لا بد أن يكون مطلقاً، جاءنا ممن كان قبلنا وسيظل فيمن بعدنا، يتجاوز الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وهذه الجهات الأربعة هي التي تكون فيها قضية النسبي فالنسبي. عبارة عن أن الزمان
أو المكان أو الأشخاص المختلفة أو الأحوال المتعددة منسوب إليها شيء معين. المؤمن يؤمن بالإطلاق وبالنسبية معًا، ولذلك تراه من مكونات العقل المسلم عنده هذا الإيمان أنه يؤمن بالواقع، يؤمن بالإطلاق، وكذلك يؤمن بالنسبية لأن الإطلاق موجود ولأن النسبية موجودة. لا يقف مع النسبية إلى أن... يقول بالنسبية المطلقة كانتشه ولا يقف مع الإطلاق فينكر النسبية من كل وجه لأن الدنيا تشتمل على الأمرين معاً. يُؤخذ من هذا أن
من مكونات العقل المسلم أنه واقعي وأنه يريد الأمور البسيطة التي هي في نفس الوقت حقائق عميقة، يعني هي أمور مفهومة للكافة ولكنها في نفس الوقت هي. حقائق ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وحقائق الأشياء ثابتة. أمر طيب أن لا نحمل الواقع أكثر مما يحتمل، وأمر طيب أن نعترف بما فيه من حقائق ومن واقعية. عندما أثرت فلسفة نيتشه هذه على السلوك، بعض الناس يقول
هذا مكون عقل المسلم أن يؤمن بالإطلاق وأن يؤمن بالنسبية. ما الذي حدث يعني الذي حدث حدث في قضايا الأخلاق حدث في قضايا الإيمان حدث في السلوكيات نفسها ثم أنه أيضاً أثر في تولد مدارس بعد ذلك البنيوية والتركيبية والحداثة وما بعد الحداثة إلى آخره بعضها موافق للواقع وبعضها مخالف للواقع لما نيتشه قال بالنسبية المطلقة هو في الحقيقة بناها على إنكاره للإله وإنكاره للإله مبني على فلسفة هيجل، وهيجل كان يؤمن بالله لكنه إله غير مفارق للأكوان. المسلم يؤمن بإله
مفارق للأكوان له الصفات العُلى. هيجل جاء وقال أبداً، هي القضية أن الله في داخل هذا الكون. الله، حسناً، هذا الكون متغير، إذاً الله نسبي وليس مطلقاً. جاء نيتشه وقال. أحسنت يا هجل، الله داخل الكون، نعم. إذًا ليس هناك إله خارج الكون، نعم. يبقى إذًا ليس هناك إله، ويصبح الأمر إنما هو أن الله حالٌّ في هذه الأكوان، فكل شيء هو الله، ولذلك فليس هناك إله، يعني ليس هناك إله مفارق في هذه الأكوان. إذًا فالمسألة نسبية، كل شيء. من الزمان والمكان والأشخاص والأحوال أصبح إلهاً وأصبح نسبياً. المسلم لا يرى هذه الرؤية. ما
الذي حدث بعد ستين سنة؟ افعل ما شئت وكل شيء نسبي، والأمر كما تراه، والكون ليس فيه حقيقة، بل إنه كما تريد أن يكون. إلى آخر هذا التصور الغريب العجيب، هذا أدى إلى ظهور... مدارس في الفن، مدارس في الاجتماع، مدارس حتى في الأكل والشرب. كان قديماً هناك آداب للمائدة، أصبح بعد ذلك يأكل شطيرة الهمبرجر ومعها علبة الببسي، يأكل من هذا ومن هذا ثم يلقيها وهو ماشٍ في الشارع. هذا كان أمراً معيباً قبل ذلك، قبل الإيمان المطلق بالنسبية المطلقة، هكذا لكن أصبح.
هذا سلوكاً مطلقاً، البيتلز أو أهل الضجيج في قضايا الهيبز الذين ساروا وقضوا حاجتهم في الشوارع وكذا إلى آخره، كل هذا كان منطلقاً من الإيمان بالنسبية وتحويلها إلى سلوكيات معيشة. إذاً فالمؤمن لا ينكر النسبية لكنه لا ينكر المطلق ويعيش فيهما معاً باعتبار الواقع وهذا مكون مهم يؤثر في. سلوكياته ويحيط بعقيدته. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.