مكونات العقل المسلم | 9 | القداسة | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مكونات العقل المسلم التي يغفل عنها كثير من الناس وهم يفهمون الإسلام، ولذلك لا يفهمون المسلمين بفقدهم هذا المكون المهم من تلك المكونات قضية القداسة. تشغل القداسة في نفس المسلم مساحة. من عقله وتكون هذه العقلية وهو يتعامل مع الحياة مع الناس مع كل شيء. المسلم تراه يقدس بعض الأشياء، نراه مثلاً يقدس المصحف، تعوّد
من صغره على تعظيم كتاب الله، إلى تعظيم كتاب الله، إلى أن يعظم كتاب الله سبحانه وتعالى، وتعظيم كتاب الله سبحانه وتعالى استقر في نفسه واختلط. بدمه ولحمه وهذا هو الذي نسميه بالقداسة، لا يستطيع المسلم أن يضع كتاباً فوق كتاب الله سبحانه وتعالى على المكتب، فإذا كان المصحف على المكتب لا يضع فوقه كتاباً، بل إذا كانت هناك كتب فإن كتاب الله ينبغي أن يكون فوق كل شيء، لا يستطيع المسلم أن يناول أخاه المصحف. عن طريق قذفه في الهواء هكذا، لا يستطيع سلوكياً ولا يستطيع نفسياً ولا يستطيع أن
يفعل هذا مطلقاً. إذا وقع على سبيل الخطأ المصحف من يد المسلم على الأرض، تراه لا يمكن أن يتركه ويمضي أو أن يعامله كأي كتاب، بل إنه يبادر إلى رفعه وتقبيله ووضعه على رأسه وأشياء من هذا القبيل قداسة، فهو يقدس بعض الأشياء لارتباطها بمفاهيم تتعلق بتلك القداسة. فهذا هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلى ذلك فلا يستطيع المسلم نفسياً أن يتحمل شيئاً أمام كتاب الله سبحانه وتعالى في القديم وقبل شيوع الديمقراطيات الحديثة والليبرالية في العالم. بل والعلمانية كان المسلم يخاف
أن يسافر بالمصحف إلى بلاد غير المسلمين وذلك أنهم كانوا يهينون المصحف، فكانوا يأخذونه ويضعونه تحت الأقدام ويدنسونه في الأوساخ ويحرقونه أمامهم وأشياء من هذا القبيل، مع التعصب الشديد الأعمى الذي كان يلف العالم، حتى إننا رأينا في كتب الفقهاء وبناءً على هذا التاريخ الأسود. للتعامل مع المقدسات رأيناهم ينصحون المسلم بألا يصطحب مصحفاً حتى لا يُهان هذا المصحف في بلاد لا تحترم حرية العقيدة ولا تحترم حرية الإنسان. تغير الحال والحمد لله، ورأينا الناس قد فهموا أن حرية العقيدة مكفولة، ورأيناهم
لا يتعرضون للمصحف، بل إنهم يطبعونه في بعض الأحيان في بلادهم ويجيدون. هذه الطباعة ويقبلونها، وهكذا تغير الحال. ولذلك فإن فقهاء العصر يقولون أنه لا بأس للمسلم أن يصطحب المصحف معه في كل مكان. في العصر الأول كان يُنصح بعدم اصطحاب المصحف، وذلك خوفاً عليه من المهانة والاستهانة به. وبعد ذلك تغير الحال فتغيرت الفتوى وتغير الحكم، وهذا يدلنا على أنه ينبغي إلا أن ننظر في الكتب وأن نأخذ منها الأحكام ونطبقها دون معرفة بتغير الواقع
وذهاب العلل التي من أجلها كان هذا الحكم أو ذهاب أغلب الحكم أو أن هذا الحكم الآن يسبب عكس المقصود الشرعي، فقد يكون المقصود الشرعي تأليف القلوب وهذا لو طبقناه الآن سيفرق القلوب، وهكذا لا بد أن نلتفت إلى هذا لأنه من فتنة العصر، من مكونات العقل المسلم القداسة، تراه يقدس الكعبة، لا يستطيع المؤمن أن يمس الكعبة بسوء، وتراه يتعامل معها تعامل القداسة. لا تعني العبادة ولا تعني الإشراك بالله سبحانه وتعالى، فهو ما قدسها وما احترمها إلا بأمر
الله، وكان سيدنا. عمر يقبل الحجر الأسود ويقول: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". إذاً فهو يقبل اتباعاً لسنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل تقبيل الحجر نوعاً من أنواع البشرى لقبول المغفرة. ولذلك ترى الناس يقفون في الصفوف الطويلة والوقت الطويل من أجل أن يقبِّلوا الحجر لأنه كيمين الله سبحانه وتعالى في الأرض. الكعبة من الأشياء التي يقدسها المؤمن ولا يعبدها، حتى يفهم الناس هذا. ولذلك يقولون إن المسلم يسجد
إلى الكعبة وليس للكعبة. بعض الناس الذين يثيرون الشبهات حول المسلمين يقولون... أنَّ المسلمَ يعبدُ الكعبةَ هذا خطأٌ شائعٌ، فهناك فرقٌ بين الاحترام وبين العبادةِ. في عالم الأشخاص، تراه يُعظِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تعظيماً كبيراً. وفي عالم الأشياء، هناك أشياءٌ كثيرةٌ يُعظِّمها، منها قبرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل ومنها أيضاً المساجدُ، حيث يحترمها وينظِّفها ويقومُ بتطهيرها والعنايةِ بها. إلى آخره، ومنها كتب العلم، ومنها أسماء الله سبحانه وتعالى إذا رآها مكتوبة، إلى آخره. القضية أنه أيضاً يقدس الأشخاص، فتراه يعظم النبي
صلى الله عليه وسلم، سواء كان ذلك في حديثه بأن يقول مثلاً سيدنا، أو أنه يصلي عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذُكر، أو أنه مثلاً حتى وهم يقرؤون المولد الشريف فإنك تراهم أنهم يقفون عندما يُذكَر ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نوع من أنواع القداسة والاحترام والتبجيل وإظهار الحب، وهذا من عقلية المسلم ومن تكوينه النفسي والسلوكي. تراه أيضاً أنه يحترم أياماً معينة وزمناً معيناً، وذلك مثل احترامه يوم الجمعة، بل تراه أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم أن
يغتسل ويتطهر ويتطيب ويلبس أحسن ما عنده، ويخص يوم الجمعة كما أمرته الشريعة بصلاة مخصوصة واجتماع مخصوص في المسجد، يستمع فيه إلى الموعظة ويلتقي فيه بالمؤمنين. تراه يُعظِّم يوم العيد، وترى الشريعة تأمره وترشده إلى التكبير في هذا اليوم ليس لإدخال الفرحة بل أيضاً لذكر الله وعبادته والاهتمام بهذا اليوم جعله لا يُصام. وهناك نهي في الشريعة عن صيام يوم العيد سواء كان عيد الفطر وهو يوم واحد أو عيد الأضحى وهو أربعة أيام: يوم الأضحى وثلاثة أيام التشريق. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام
خمسة أيام. عيد الفطر وهذه الأربعة وفي رواية ستة أيام وأضاف إليها يوم الشك الذي هو اليوم المتمم للثلاثين من شهر شعبان وهذا لأمر آخر وهو أنه يريد بناء العقلية الإسلامية على اليقين وعلى القوة وعلى الطاعة والعبادة وأن هذه الشعائر إنما هي بإذن الله ومن أجل الله سبحانه وتعالى تراه أيضاً يهتم بأزمنة معينة كثلث الليل الأخير، ويعتقد المسلم أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: "هل من مستغفر فأغفرَ له؟" وهكذا هي بالرفع في رواية البخاري: "فأغفرَ له، هل من سائل فأعطيه؟" إذاً
هذا وقت مبارك. تراه أيضاً يتعامل بالقداسة مع المكان، فتراه أنه لا يدخل. المسجد وهو بجانبك وتراه أنه يذهب إلى البيت الحرام محرماً قد خرج من إلفه وعادته، وتراه يتعامل مع المكان معاملة أخرى غير المعاملة التي يتعامل بها مع سائر المكان، يتعامل مع بعض المكان معاملة لا يتعامل بها مع سائر الأماكن والبقاع في الأرض. بيوت الله في الأرض المساجد يعتقد المسلم. أنَّ صلاته في الحرم المكي
بمائة ألف صلاة وأنَّ صلاته في الحرم المدني بألف صلاة، كما أنه قد حُرِّم بموجب الشريعة على نفسه شجر وطير مكة والمدينة، وهناك حدود لمكة وحدود للمدينة فعلاً هي ترسم دائرة الحرم الذي يحرم عليه فيه الاعتداء على الشجر أو على الطير أو على... الخروج بأي معصية كانت في هذا الإطار تعظيماً لهذا المكان، في حين أنه مأمور بالبعد عن كل شر في كل مكان، لكنه يتعامل مع هذا المكان بنوع من أنواع القداسة. إذاً فالقداسة مكوّن من مكونات العقل المسلم في عالم الأشياء، في عالم الأشخاص،
في الزمان، في المكان، وفي غير ذلك. من محيط الحياة حتى يستطيع المسلم أن يدرك نفسه وأن يعي لما يفعل وأن يفهم الشريعة التي كُلِّف بها حتى يفهم الآخرون من المسلم هذا، فعليهم أن يضعوا القداسة والاحترام وأن يفهموا القداسة على وجهها الصحيح في مكانها الصحيح من مكونات العقل المسلم. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم. ورحمة الله وبركاته