من رعونات النفس | الحكم العطائية | حـ 18 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحِكَم العطائية لسيدي ابن عطاء الله السكندري. يقول رضي الله تعالى عنه: في حكمته إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس. في كثير من الأحيان الإنسان يؤجل عمل اليوم إلى الغد ويأمل في فسحة من الوقت، وينتظر
أن يتفرغ من الحياة الدنيا ومن مشاغلها ومن مصائبها ومن كوارثها ومما يعطل الإنسان في حياته هذه. وهذا من رعونات النفس ومن الحمق وليس الحكمة في شيء، الحكمة: بادروا بالأعمال سبعاً. في الحديث أُمرنا أن نبادر بالأعمال، أن نفعل ما أقامنا الله فيه الآن. فنحن الآن وعندنا خمس دقائق، فلنسبح أو فلنقرأ جزءاً من القرآن ولو صفحة، أو فلنصلِّ ركعتين، أو فلنتدبر ونتأمل آية من كتاب الله، أو نقوم فنتوضأ، نفعل أي شيء
من... الخيرات لأن الخير لا ينتظر ولأن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. ومنسوب إلى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: "صاحبت الصوفية فاستفدت منهم أن الوقت كالسيف، إذا لم تقطعه قطعك". ومراعاة الأوقات والمبادرة بالأعمال الصالحات، والله سبحانه وتعالى يقول: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم" ويقول... فرّوا إلى الله جميعاً، فالفرار إلى الله والإسراع إلى العمل الصالح هو شيء من الحكمة، ولذلك فإن التأجيل والتأخير حتى يفرغ الإنسان أو حتى يتهيأ الإنسان من رعونات النفس، ويجد
الإنسان نفسه أنه قد مضى الوقت ولم يفعل شيئاً، وقد ذهب الشباب وأنه لم يفعل شيئاً، وهكذا فهو أمر خطير. جدًا لأن اليوم الذي يمضي لا يعود مرة أخرى. مراعاة الأوقات والقيام بواجب الوقت من الحكمة. يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا. وفي الحديث النبوي: "ما من يوم إلا وهو ينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنم مني، فإني لا أعود". أعود إلى يوم القيامة، فاليوم الذي يمضي لا يعود، ولذلك يسميه المناطقة
عرضاً غير قارّ، أي غير مستقر، يعني ليس الزمان كالمكان. المكان ثابت، نذهب إليه فنجده، ونذهب إليه غداً فنجده أيضاً، ولكن الزمن ليس ثابتاً. الزمن كأنه حبل يمر علينا، فكلما مضى لا نستطيع أن نرجع أمس في غدنا. أبداً ومن هنا فإننا نرى ولياً من أولياء الله الكبار الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب كان يحاسب نفسه على مستوى الأنفاس، فكان ينظر إلى نفسه ويتذكر ربه ويراقب أعماله وسلوكه على مستوى النَفَس، فيقول: ما خرج نَفَسٌ مني وعندي أمل أن يعود، وما دخل
نَفَسٌ وعندي أمل أن يخرج. أي كأنه يترقب النهاية ويترقب الموت ويترقب سكوت النفس عند انقطاع الأنفاس، وهي مرحلة عالية جداً أن يراقب الإنسان نفسه بهذه الحال. ولذلك كان متيقظاً، وهذه يسميها أهل الله اليقظة. يعرف حقيقة نفسه ويعرف حقيقة زمنه ويعرف حقيقة الكون ويعرف طلب الله سبحانه وتعالى منه ويعرف العمل الصالح، ولذلك لأنه فاهمٌ لكل هذه الحقائق فتراه يفعل كل خير، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. هذه القضية، قضية المحافظة على
الأوقات، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، أولها عن عمره فيما أفناه". ولذلك نرى دائماً المسلمين وهم قد حوّلوا هذا. المعنى وهذه القيمة الحفاظ على الوقت إلى برنامج عمل يومي وحافظوا على أوقاتهم. يقول ابن الجوزي في كتاب له ألَّفه في هذا الشأن وسماه "لفتة الكبد في نصيحة الولد": "يا بني" - وهو ينصح ابنه - "اعلم أن أغلب الناس لا يعرفون حقيقة الدنيا وأنها إلى زوال، ولذلك تراهم يتكلمون في الأسواق وفي الحكام، ابن
الجوزي توفي سنة خمسمائة وخمسة وتسعين هجرية في نهاية القرن السادس. الناس أيضاً يجلسون وليس لديهم إلا أن الأسواق قد ارتفعت أسعارها وأن هناك أزمة اقتصادية وأن الحكام يظلموننا أو لا يراعوننا. هكذا دائماً منذ القرن السادس الهجري والناس تفعل هذا، واعلم أنهم يجلسون فيتكلمون. في الأسواق وفي الحكام فاشتغل ببري الأقلام وتحضير الدواة وتقطيع الورق وتحضير المراجع حتى ينصرفوا، أي لكي يعرفوا أنه لا يوجد وقت لهذا الكلام، وأن أهم شيء في حياة الإنسان هو العمل الصالح. يريد أن يؤلف، يريد أن يذاكر، يريد أن ينفع من بعده وأن ينفع
غيره، ولذلك كانوا يشغلون. أوقاتهم بالعمل الصالح، ويؤلف ابن الحاج رحمه الله تعالى كتاباً ماتعاً في استغلال الأعمال والأوقات وأسماه "المدخل". اسم الكتاب أخذ صفحة ونصفاً، يعني "المدخل في الأعمال الصالحات والنيات الطيبات" وكذا فضل. يقول إن اسم الكتاب صفحة ونصف ولكن اشتهر بكلمة "المدخل". في المدخل يبين لنا أن النية أيضاً تفيد في الأوقات وقلة الأعمال، ولذلك كانت الصحابة توجه أعمالها دائماً بالنية، فمثلاً إذا
لبستُ ثوباً غالياً وفخيماً وجميلاً، كانت الصحابة إذا فعلت ذلك مباشرةً تنوي في قلبها إظهار نعمة الله والشكر على هذه النعمة، وعسى أن يتعرض لي أحدهم حتى أساعده بصدقة أو معونة أو شفاعة أو قضاء حاجة إلى آخره، الصحابة في تكثير النيات، والنيات لا تحتاج إلى وقت، مراعاةً للأوقات وضيقها، ومراعاةً لقلة الأعمال، حتى يزيد ثواب الإنسان. فكانوا يخرجون إلى الصلاة، والخروج إلى الصلاة بالثوب الفخيم ينوون به الزينة: "يا بني آدم خذوا زينتكم
عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين". ولذلك فهو يمتثل. هذا الأمر نية وبالنية هذه يأخذ الثواب الجزيل، وإذا أراد أن يلبس ثوباً متواضعاً فإنه يُظهر التواضع لله وينوي ستر العورة وينوي عدم التميز عن الناس وعن جماهير المسلمين وينوي عدم التكبر، وهكذا هو شخص واحد إذا لبس ثوباً غالياً نوى هذه النيات وإذا لبس ثوباً رخيصاً نوى هذه النيات. لكنهم أبداً لا يتأخرون عن العمل، لا يتأخرون عن الجهاد، لا يتأخرون عن فعل الخيرات؛ لأنهم في
صراع مع الحياة، ولأنهم في صراع مع الوقت. ولذلك فهذه من أجل الحِكَم التي تساعد، خاصة الذي بدأ السعي في طريق الله. إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس، ولذلك نُنهى عنها. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.