من علامات البصيرة | الحكم العطائية | حـ 5 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم في حلقة جديدة من الحكم العطائية لسيدي ابن عطاء الله السكندري، وهو يقول في حكمتنا اليوم: "اجتهادك فيما" ضمِنَ لك، وتقصيرك فيما طُلِبَ منك دليلٌ على انطماس البصيرة منك. فالإنسان وهو في الطريق إلى الله يجتهد في الحياة في شيءٍ ضُمِنَ
له. ضمِنَ الله لك أجلك، وضمِنَ الله لك رزقك، وضمِنَ الله لك أنه هو الذي يشفيك، وضمِنَ الله لك أنه هو الذي يهديك، وضمِنَ الله لك الحياة. لأنه هو الذي خلقك ولكن طلب منك عبادته وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون طلب منك فقال يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم اعبدوا ربكم فطلب منك العبادة وشرح لك هذه العبادة لكنه سبحانه وتعالى
يقول وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فالذي ضمنه لك الرزق والذي طلبه منك العبادة، فعندما تعكس الأمر وتجتهد في طلب الرزق وتترك ما طلبه منك من العبادة، فإن هذا دليل على عدم فهمك لربك، دليل على انطماس بصيرتك، دليل على أن عين قلبك قد عميت أو أُغلقت عين قلبك. فالقلب فيه عين تسمى بالبصيرة، والعين فيها جارحة تسمى بالبصر، هذا. البصر بالعينين
بالجارحة وهذه البصيرة بالقلب بعين القلب، فإذا اختل فهمك ولم تعلم مراد الله سبحانه وتعالى من خلقه وما الذي طلبه وما الذي ضمنه، فإنك تكون غير راءٍ للحقيقة، ولذلك فعين البصيرة قد أُغمضت أو عميت، وهذا هو الذي يسمى بانطماس البصيرة والعياذ بالله تعالى. اجتهادك فيما ضمن. لك وتقصيرك فيما طُلِبَ منك دليل. كلمة "دليل" في اللغة العربية على وزن "فعيل"، وهذا الوزن يستوي فيه المفرد وغيره، ولذلك لم يقل "دليلان" بل قال "دليل"،
وهذا من ناحية العربية سليم. تقصيرك واجتهادك دليلان، لكنه قال عليهما "دليل"، وذلك لأنه استعمل كلمة "فعيل" على وزن "فعيل". "دليل" على وزن. فَعِيل وفَعِيل يستوي فيه المفرد ويستوي فيه المثنى ويستوي فيه الجمع، يعني دليلان أو أدلة كلها، لكن كلمة دليل يجوز استعمالها هنا. دليل على انطماس البصيرة منك، لا حول ولا قوة إلا بالله. لا بد أن نتأملها من وراء هذه الحكمة، هذه الحكمة أتت بعد قوله: أرح
نفسك من التدبير. فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك، اجتهادك فيما ضمن لك وتقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس البصيرة منك. هذه الحكم في تتاليها لها حكمة أيضاً، ولذلك كثير من الشراح نعى على المتقي الهندي عندما صنفها، أو عندما جعلها بعضهم على حروف الهجاء كعمل كأنه فهرس لها. قالوا أبداً إن كل حكمة لها علاقة مع ما قبلها وما بعدها، فهو هنا يتكلم عن الآجال وعن الأرزاق وعن أن الإنسان لا بد أن يفهم عن الله ومراد الله. وهكذا يروي
لنا مشايخنا قصة عن الشيخ محمد أمين البغدادي، والشيخ محمد أمين البغدادي كان من علماء الأكراد العاملين والسالكين. في طريق الله وكان شافعي المذهب وأتى مصر ومات فيها سنة ألف وتسعمائة وأربعين، وكانت له مجموعة كبيرة من تلاميذه من علماء الأزهر الشريف. الشيخ محمد أمين البغدادي وهو يسير إلى المسجد الذي كان يلازمه ويصلي فيه وكذلك يدرس فيه وهو مسجد الظاهر جاشنكير لاقى أحد الناس وهو في حالة سكر، وهذا
الرجل السكران طلب منه شيئاً، تعرض له هكذا وقال له: "هات شيئاً، أعطني شيئاً". فوجده رجلاً محترماً، ولكن لأنه سكران غير واعٍ، يعني كأنه يطلب منه ويستجدي منه، فأخرج الشيخ عشرة صاغ، وهذه العشرة صاغ كانت ذات قيمة في ذلك الوقت، وأعطاها لهذا الرجل، فلامه أحد التلاميذ. كان السائرون معه قالوا له: "هذا رجل سكران يا سيدنا، كيف تعطيه عشرة قروش؟ سيذهب ليشرب بها هكذا". قال لهم: "ندعو الله سبحانه وتعالى له بالهداية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نعطي الناس ولو جاءت على فرس، وهذا الرجل أنا لا أفتش في أنه سكران أو..." غير سكران، أنا أنفّذ سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فأعطيه لأنه سألني وأنا معي في جيبي، أعطيه العشرة ساعة. وفجأة وبعد عدة أيام أتى هذا الرجل إلى المسجد يبحث عن ذلك الشيخ الذي قابله في هذه المنطقة. "أين الشيخ هذا؟" قالوا له: "تريد ماذا؟" قال: "أبداً، لا." لا بد أن ألتقي به، فدخل عليه وقبّل يديه وهو يبكي. قال له: "ما الأمر؟ ما الخبر؟" قال له: "يا سيدنا، العشرة قروش الفضية التي أعطيتني إياها ذهبت لأشرب بها خمراً، فلما شربت الخمر حدث لي قيء، وبعد ذلك بقي منها مبلغ فشربت ثانيةً
فحدث لي قيء، ومرة ثالثة فحدث لي قيء ثالث وعلى..." ذلك أنني حدث لي نفور من الخمر وتبت إلى الله وصممت على أنني لا أشرب هذه النجاسات مرة أخرى وأنني أرجع إلى الله وأصلي وأصوم وأنا ألازمك. فلما لازمه هو، كان دخل هذا الرجل ستة جنيهات، وبعد ذلك عندما لازم الشيخ وصلى وصام واستقام وهكذا، أصبح دخله أربعة جنيهات، فذهب إلى قال الشيخ له: "يا مولانا، هل الذي يسير معكم تُخسف به الأرض هكذا؟ يعني أنا كنت ستة جنيهات، وبعدما صليت وصمت أصبحت أربعة جنيهات". فقال له: "حسناً، لنبحثها بهدوء. أنت كنت تعطي لهذا الخمار، وكان الخمار يأتي من اليونان وإيطاليا وغيرهما إلى آخره، يعني
يقولون عليه..." يعني بتعطي ليعني كم؟ قال له: كنت أعطي له اثنين جنيه. قال له: طيب، إذاً لم يكن رزقك، كان رزق يعني، ثم طهرك الله من الخمر، والاثنين جنيه الذين كانوا يذهبون ليعني سيذهبون له من طريق آخر عن طريق حكمة الله سبحانه وتعالى وتدبيره للكون. الرجل تاب وحسنت توبته، رحمه الله. الله تعالى والحقيقة أنه لم يقل لرزقه لأن هذا كان يأتيه ويفعل بها المعصية، فلما ذهبت المعصية لم يكن له حاجة فيها، وأصبح هنا معنى في هذه القصة جليل وهو أننا كلما اتبعنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأينا عجائب
وغرائب وهدى الله الناس بها، فلما قال أعطي. الصدقة، أعطِ الصدقة، فإذا بها تكون سبباً في هداية هذا الرجل. ليس بيدي ولا بيد الشيخ ولا بيد التلميذ الذي اعترض، إنما هي بيد الله. هو الذي يهدي وهو الذي يُحدِث كل ذلك في الكون. فتنبَّه، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم. ورحمة الله وبركاته