موعظة المؤمنين | بيان الدواء النافع في حضور القلب | أ.د علي جمعة

موعظة المؤمنين |   بيان الدواء النافع في حضور القلب  | أ.د علي جمعة - إحياء علوم الدين, تصوف
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. اللهم اشرح صدورنا واغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسر غيوبنا ونور قلوبنا. اللهم يا ربنا اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء همنا وحزننا واجعله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا. علمنا منه ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وانصرنا بالحق. وانصر الحق بنا، اللهم اجمع قلوبنا على الخير، وأحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم يا ربنا احشرنا تحت لواء نبيك يوم القيامة، واسقنا من يده الشريفة شربة ماء لا نظمأ بعدها أبداً، ثم
أدخلنا الجنة من غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب، ومتعنا بالنظر إلى وجهك. الكريم في جنة الخلد يا أرحم الراحمين وافتح علينا فتوح العارفين بك نعوذ بك من شر أنفسنا ومن شر الناس نعوذ بك من الخطأ والخطيئة اللهم نعوذ بك من كل ما استعاذك منه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعبادك الصالحون ونسألك من كل خير سألك منه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون. اللهم يا ربنا يا كريم يا واحد يا قهار انصر الإسلام والمسلمين وثبت قلوب المؤمنين وسدد رمي المجاهدين ووحد قلوب أمة سيدنا محمد على الخير يا رب العالمين. قال
المصنف رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين: باب بيان الدواء النافع في... حضور القلب: القلب له حضور مع الله سبحانه وتعالى، وهذا الحضور له سبل وطرق، وهو يشرح الدواء الذي إذا تناوله الإنسان ساعده على حضور قلبه عند ربه. وحضور القلب عند الرب هو المقصود الأهم في الصلاة، بل في العبادة كلها. حضور القلب يعني عند علام الغيوب، فقالوا: حضور القلوب عند... علّام الغيوب قال: اعلم
أن المؤمن تكون له ثلاث درجات: درجة تسمى بدرجة الإسلام، ودرجة أخرى هي درجة الإيمان، ودرجة ثالثة هي درجة الإحسان. الإسلام يعني الظاهر من التمسك بالأركان: الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد والبيع والشراء وأحكام الحلال والحرام، وهو لا بد منه لكل إنسان حتى ينال سعادة الدارين. ولكن الإيمان درجة أخرى من المشاهدة يشعر فيها الإنسان بربه دون دليل، أي لا يحتاج إلى أدلة
يقيمها في ذهنه ولا في نفسه حتى يتوصل إلى ربه، بل يجد نفسه مؤمناً ومصدقاً برب العالمين لا شريك له من غير دليل، بل بمحض الفطرة وما استقر عليه القلب، وهي درجة عظيمة. إذا ما وصل إليها الإنسان لا يخرج منها أبداً والحمد لله رب العالمين. قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما - أي لم بعد - يدخل الإيمان في قلوبكم. يعني ما زال الإيمان لم يدخل في قلوبكم، وسيدخل إن شاء الله ولكن ليس إلى هذه اللحظة.
ماذا تعني كلمة "لسَه" التي نقولها هذه؟ إنها تعني "إلى حين الساعة"، "إلى غاية الآن". وماذا تعني "إلى غاية الآن"؟ تعني "إلى غاية ذا الوقت". و"ذا" ينطقونها "دا" لأنهم أزالوا النقطة، فيصبح المعنى "إلى غاية ذات الوقت". إذن "لسَه" تعني "للساعة". وبعد ذلك، أهل الحجاز يُبرزون العين ويقولون لك "لسَع". يدخل الإيمان في قلوبكم إلى الآن، ففي اللغة العربية كلمة تحل محل هذا الكلام كله، هذا الحديث كله. "لم" و"لما"، ما
الفرق بين "لما" و"لم"؟ هو أنه "لم" تعني إلى الآن لم، لكن "لما" فيها تطلع للدخول، فيها تطلع للدخول. والدرجة الثالثة هي درجة الإحسان وهي أن ترى أن. تعبد الله كأنك تراه، انظر إلى الإيمان بأنه أن تعبد الله من غير دليل، بل استقر في وجدانك وفي فطرتك وفي قلبك شهود الله، استقر تماماً من غير دليل ولا ترتيب، لكن أصبحت ترى الله، أصبحت الآن تراه لا يغيب عنك. يعني المؤمن يتذكر وينسى
لكنه لا يكفر، لا يتشكك، الريبة والشكوك، لكن المحسن ماذا سيفعل؟ هو أصلاً لا يستطيع أن ينكر، فإنه يرى - يعني رأى - ربنا أمامه، يراه. كيف ذلك وقد قال تعالى: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"؟ فكيف يرى؟ قالوا: القلب له عينان، وله أذنان، وله بابان، وله وجهان، أي أنَّ القلب الذي في داخله وجهه يحاكيك من الخارج، لكنه يتفوق عليك. أنت
لديك وجه واحد، بينما له وجهان: وجه متوجه إلى الخلق ووجه متوجه إلى الخالق، وباب مفتوح على الخلق وباب مفتوح على الخالق، وعين ترى أسرار الملك وعين ترى أسرار الملكوت، عين البصيرة. فقلوب العارفين لها عيون لا يراه الناظرون، انظروا ماذا يقولون، انظر بينما هم سائرون، يعرفون كل شيء، أشياء معروفة مفهومة، فما هي قلوب العارفين؟ لها عيونها. أنت مغمض فقط، حسناً ماذا أفعل لك؟ أنت حر، أنت مغمض، مغلق عينيك. افتح ما حولك، افتح لكي يفتح الله عليك. فماذا يرى أصحاب عيون البصائر
هؤلاء؟ قال أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك. أي أن تكون في حالة ذكر دائم بحيث إنك تشعر أن الله يراك دائماً، وهذه كانوا يسمونها محاسبة الأنفاس. سموها محاسبة الأنفاس. سيدنا عمر قال: لا يخرج نَفَس وأتمنى أن يدخل، ولا يدخل نَفَس وآمل أن يخرج. الله يعني هذا يأخذ باله بالنفس وليس بالسنين ولا الشهور والأيام والأسابيع ولا حتى الساعات. كل ساعة هكذا تذكر ربك قليلاً، لا بل هو ذاكر باستمرار. إنه مع الله
باستمرار. حضور القلب له دواء، ما هو الدواء؟ اعلم أن المؤمن يبقى، هذا الدواء هل سينفع المسلم أم سينفع المؤمن؟ سينفع. للمؤمن الذي قادم هذا، لمن يُوصَف؟ للمؤمن. إذاً يجب أن نكون مؤمنين أولاً. لكن المسلم نقول له: لا، اسلك الطريق أولاً لكي تصبح مؤمناً. حسناً هكذا، ادخل من الإسلام إلى الإيمان، وبعد ذلك خذ هذا الدواء. اعلم أن المؤمنة... أريد منكم وأنتم تقرؤون أن تتدبروا، يعني لا تقرؤوا مثل
الجرائد، تقرؤون صحفًا، لا أعلم أن المسلمة كانت فرحة، وهم كانوا منتبهين وهم يكتبون هكذا. نعم، فالجمال في هذا أنه منتبه لما يكتبه. اعلم أن المؤمن لم يقل المحسن، ولم يقل المسلم، فانتبه لا بد أن يكون معظمًا لله عز وجل. وجل. وجلًا وخائفًا منه وراجيًا له، انظر إلى الكلام، ومستحييًا من تقصيره - من تقصير نفسه مع ربه، فلا ينفك عن هذه الأحوال بعد إيمانه، وإن كانت قوتها بقدر قوة يقينه. يعني أحيانًا تعلو
وأحيانًا تنخفض، فانفكاكه عنها في الصلاة لا سبب له إلا تفرق الفكر. فكرك! أليس أنت مؤمنًا؟ لقد للإيمان ويقول لك إذا كنت مؤمناً فيجب أن يكون لديك التعظيم والخوف والرجاء والحياء، كيف تكون هذه الصفات لديك وأنت غير حاضر القلب؟ قال: لا بد أنك تفكر في شيء آخر لأنك ما زلت مؤمناً، وتقسيم الخاطر وغيبة القلب عن المناجاة والغفلة عن الصلاة،
وما ينهى عن الصلاة إلا الخواطر دفع تلك الخواطر ولا يُدفع الشيء إلا بدفع سببه فلتعلم سببه. حسناً، قل لنا ما سببه؟ قال: وسبب موارد الخواطر التي تجعل الإنسان خواطره كثيرة وجالساً يفكر في الدنيا ويلهو عن حضور القلب إما أن يكون أمراً خارجاً أو أمراً باطناً، إما شيء خارجك أو شيء داخلك. أما الخارج فما... يَقرَعُ السَّمْعَ فيصبح مسموعًا، أي أنت نفسك لها أبواب: السمع والنظر والشم والذوق واللمس، وهي الحواس الخمس. فهناك شيء
خارج عن عمل الحواس الخمس، فمن طبيعتك أنك تنشغل وتنطبع صور الكائنات في قلبك، فتكون حجابًا بينك وبين ربك. وصور الكائنات تنطبع عندك كيف؟ عن طريق الحواس. أتسمعني؟ بعض الضجيج أو أو أناس يتحدثون وتريد أن تتسمع إليهم وأنت في المصنع، تريد أن تسمع ما يقولونه لعلهم يتحدثون عنك، أي شيء يأتي من السماء، فما يقرع السماء أو يظهر للبصر، شخصان يتشاجران وتريد أن ترى من سيضرب من وأنت واقف أمام نافذة المسجد، حافلة
تمر وتصطدم. في حافلة أخرى ومعي شخص ينظر إلى شيء ما في عينيك، شيء ما من نافذة عينيك، فإن ذلك قد يختطف الهم حتى يتبعه، ويجعلك مهتماً بهذه الحكاية، يجذبك، وهذا أمر طبيعي، أمر طبيعي، وينصرف فيه، ثم تنجر منه الفكرة إلى غيره، ويتسلسل، ويكون الإبصار سبباً للتفكير، ومن قويت نيته وعلت ما جرى على حواسه ولكن الضعيف لا بد وأن يتفرق به فكره. فماذا نفعل؟ وعلاجه قطع هذه الأسباب. يجب
عليك عندما تأتي للصلاة أن تفصل نفسك شعوريًا عما حولك. اقطع سمعك ولا تركز على ما هو خارجي، اصمت واغلق سمعك، اقطع نظرك ولا تجلس تلتفت. وكان لا يلتفت في صلاته وسلم، ومرة كانت معه سجادة يصلي عليها فيها أعلام حمراء، فبدلها مع شخص آخر، وقال: "شغلتني في الصلاة". يعلمنا نحن أنك يجب أن تحفظ سمعك وبصرك، وربنا جعلك تحفظ لسانك ويديك التي هي الأشياء الاختيارية. فأنا عندما أجلس
هكذا، أسمع رغماً عني وأرى رغماً عني، لكن اللمس لا. ليس إكراهاً عليّ، بل باختياري أتذوق وأشرب وآكل، باختياري، فقال "وقوموا لله قانتين"، فمنعنا من الأكل ومن الشرب ومن الأفعال الكثيرة في الصلاة، حسناً، يبقى لديّ السمع والبصر، كيف أتعامل معهما؟ أقطع الأسباب، كيف أقطع الأسباب؟ وعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره، فيبقى طرفك ساكناً في الصلاة وأنت لست تنظر يميناً وشمالاً بعينك أو لا تترك بين يديك ما يشغل حسك، كما
عندما أرانا أن السجادة التي شغلته استبدلها بسجادة أخرى، ويقترب من الحائط حتى لا يمر أحد بين يديه، ولكي لا يرى أحداً آخر أثناء صلاته، حتى لا تتسع مسافة بصره، ليبقى محدود النظر، ويحترزون من الصلاة. على الشوارع لا ينظر إلى الحافلات ويمشي ستشغلونه وفي المواضع المنقوشة المصنوعة وعلى الفُرُش المصبوغة، وأما الأسباب الباطنة فتبقى الأسباب الظاهرة عرفناها في موضعين جميلين: السمع والبصر، فاحفظ عليهما بكل ما تستطيع به أن تحافظ عليهما. حسناً، ومن الداخل فهي أشد،
فإن من تشعبت به الهموم في أودية الدنيا لم لا ينحصر فكره في فن واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب، فهذا طريقه أن يرد النفس قهراً إلى فهم ما يقرأه في الصلاة. أن يرد النفس قهراً يعني غصباً عنه، وهذا يحتاج إلى تدريب، لكن بعد التدريب تعتاد عليه. في البداية يكون صعباً وبعد ذلك يصبح سهلاً. الذي أنت تقرأه قل بسم الله الرحمن الرحيم في نَفَس، وبعد ذلك تأمل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين في نَفَس ثانٍ.
كل شيء في نَفَس، ما غرض هذا النَفَس إلا أن يطول بك، إلا أن تتكلم سريعاً فتغفل فتتشعب أفكارك وتطير بك إلى كل جانب. يرد النَفَس إلى فهم ما يقرأه في الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويُعينه على ذلك أن يستعد له قبل التكبير بأن يُجدِّد على نفسه ذكرى الآخرة. توجد أمور تستطيع أن تفعلها خارج الصلاة تفيدك وأنت في الصلاة، كذكر الله خارج الصلاة فتخشع في الصلاة.
أي أن الخشوع في الصلاة ليس فقط التنسك وقطع موارد السمع والبصر وغض البصر وما إلى ذلك مقبول، لكن أيضاً التأمل والتدبر جميل، لكن هذا في شيء خارج الصلاة. كذلك تعود إلى هذا الباطن وهو ذكر الله، وعليه فسروا قوله تعالى: "ولذكر الله أكبر"، أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، يعني أكبر من الصلاة، لماذا؟ بركة الذكر تكون خارج الصلاة وتكون في الصلاة. هذا هو الكِبر، فيُعين على الخشوع وموقف المناجاة. يعني
أن تعرف قبل التكبير، قبل أن تقول "الله أكبر"، أنك واقف الآن تناجي ربك، وحضور المقام بين يديك، وخطر المقام بين يدي الله سبحانه، وهول المطلع. ويُفرغ قلبه قبل التكبير للصلاة مما يهمه. فلا يترك لنفسه شغلاً يلتفت إليه خاطره، ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عما يهمه أي ما يسبب له الهم. فإن كان لا يسكن هائج أفكاره بهذا الدواء المسكن، فلا ينجيه إلا المسهل، وهو مسهل يسبب له الإسهال الذي يقمع
مادة الداء من أعمال العروق، وهو أن ينظر في الأمور. الصارفة عن إحضار قلبه، ولا شك أنها تعود إلى مهماته، وأنها إنما صارت مهمات بشهواته. يبقى لا بد عليه أن يجلس في خلوة مع نفسه ويقطع علائق الدنيا. مالك؟ أصلاً أنا لا أجد عملاً، دعها على الله. غيره وعلى أيديهم، دعها على الله. غيره يريد أن يتزوج ولا يستطيع، دعها. على الله وهكذا، قم تجد نفسك في الأسفل. ما هو أصلك، أنت ستضرب الأرض وتضرب السماء. أنت كما أنت هكذا. ما الذي حدث؟ أن لديك شهوة التحصيل، تريد أن تحصل على هذا الشيء، والله لا يريد أن
تحصله الآن. فليكن التسليم والرضا. اهدأ، ستجد نفسك قد هدأت. قم صلِّ الآن، تذكره قال: مادام الدواء الأول لم ينفع، فلا بد من جلسة مع النفس الآن، لأن الخواطر التي تأتيك، ما سببها؟ سببها تعلقك بالدنيا، فيخرج من هذه الشهوات ويقطع العلائق. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في قضية الخميصة التي ذكرتها لكم قال: اذهبوا بها إلى أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي وأتوني بأنبجانية أبي
جهم. عمل بدل معبي جهل رضي الله تعالى عنه. إذاً فلا بد من حضور القلوب أمام علّام الغيوب، والحضور يأتي بقطع الأسباب والعلائق، والحضور يأتي بالتوكل والرضا على قضاء الله سبحانه وتعالى والتسليم، والحضور يأتي بكثرة الذكر. خارج الصلاة فإن كثرة الذكر خارج الصلاة تساعد على الخشوع في الصلاة. اللهم يا ربنا ارزقنا الخشوع في الصلاة وارزقنا حلاوة الذكر في القلوب وارزقنا الدخول إلى حضرة قدسك
يا أرحم الراحمين.