موقفك من الأسباب | الحكم العطائية | حـ 2 | أ.د علي جمعة

موقفك من الأسباب | الحكم العطائية | حـ 2 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مع الحِكَم العطائية لسيدي ابن عطاء الله السكندري، وقد تكلم في أول حكمة ألا نعتمد على الأعمال حتى يرضى الله. سبحانه وتعالى عنا وقال من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل. كيف أعرف أنني قد اعتمدت على عملي؟ أفرح
عندما تحدث الطاعة وأفقد الرجاء عندما تحدث المعصية. ولكنه يريد أن يعلمنا أن طاعتي هذه كانت بتوفيق الله وأن معصيتي هذه كانت بقدر الله وعلى ذلك. فلا بد أن نؤمن بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز العرش". والمتأمل في حِكَم ابن عطاء الله السكندري يجد كأنه يشرح هذا الحديث، يشرح كيف أنه لا حول ولا قوة إلا بالله وكيف تُطبقها. عندما تعمل وعندما تعصي وعندما تتوب وعندما
تتعامل مع الأسباب وعندما تعتزل الناس وعندما تخالطهم وعندما تسير في الحياة، دائماً يكون ديدنك وعنوانك وكل شيء عندك هو "لا حول ولا قوة إلا بالله". يشرح هذا في صورة واضحة في كل الحكم. هنا يتكلم عن حقيقة ذكرها لنا رسول الله صلى. الله عليه وسلم وهو أنه لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، فقالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته. فبيّن هذا الحديث أن أحداً لن يدخل الجنة بموجب عمله، إنما في الحقيقة بفضل الله سبحانه وتعالى، فلا نعتمد على العمل، ولذلك
إذا قدر الله علينا. معصية لا بد علينا من اليقظة، لا بد علينا أن نرجع عن هذه المعصية وأن نتوب وأن نتناساها بعد ذلك وأن نعزم على ألا نعود إليها مرة أخرى، ولكن لا نفقد الرجاء أبداً في ربنا حتى لو تكاثرت المعاصي، حتى لو أنني قد كُتبت عليَّ معاصي الدنيا كلها، فإن الله سبحانه وتعالى قد قبل من المشركين إسلامهم وجعلهم خير جيل عرفته البشرية وجعلهم دعاة هادين مهديين إلى يوم الدين. سيدنا عمر وسيدنا عثمان كانوا معدودين من المشركين، كانوا يعبدون الوثن، ولكنهم أصبحوا خير الناس وأصبحوا أعلى الناس. لا تفقد الرجاء في ربك أبداً من أجل مجموعة
من المعاصي فعلتها هكذا. تكون قد اعتمدتَ على العمل كأنَّ عملك هو الذي سيُدخلك الجنة. فضلُ اللهِ وهدايتُه هي التي ستُدخلك الجنة، لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله. لا حول ولا قوة بك أيها الضعيف المسكين. ولذلك تأمرنا هذه الحكمة ألّا نعتمد أبداً على أعمالنا، لأن الاعتماد على الأعمال سيسبب مصائب منها. الكِبْرُ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يدخلَ الجنةَ من كان في قلبِهِ مثقالُ حبةٍ من خردلٍ من كِبْر". هل تعرفون أن حبةَ الخردلِ ستةُ آلافٍ منها يساوي جراماً واحداً؟ هل تدرون أن هذا الجرامَ شيءٌ بسيطٌ جداً موجودٌ عند الصاغةِ في صورةِ صفيحةٍ صغيرةٍ جداً، هذه
الصفيحةُ وزنُها... يساوي ستة آلاف حبة خردل، فإذا كان الإنسان عنده واحد على ستة آلاف من الجرام من الكِبر، وأن هذا يمنعه من دخول الجنة، فما بالك لو تمكن الكِبر من القلب؟ إنه مرض من أمراض القلوب الشديدة، ولذلك الرجل بدأ حكمه بهذا. ألا تعتمد على الأعمال عندما لا نعتمد أيضًا على... الأعمال لا نفقد الرجاء، فإذا ما وقعنا في الزلل فإننا نقول: الأمر كله بيد الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا ضعيف، اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني. ونبكي ونتضرع ونخضع ونخشع لله رب العالمين، فتكون مساحة الرجاء واسعة. ولذلك فالاعتماد على العمل كما أنه يؤدي إلى الكبر فإنه يؤدي... إلى فقد الرجاء فكانت
هذه الحكمة حكمة بليغة ينبغي علينا أن نكررها وأن نحفظها وأن نرجع إليها خاصة عندما نصاب بذنب من الذنوب. حدث الذنب أمس لا بد من التوبة اليوم وهيا بنا نبدأ صفحة جديدة. عدم اليأس من رحمة الله، عدم فقد الرجاء. كثير من الناس عندما نتكلم معهم... نقول له يا أخي أنت مستمر في الذنب، فيقول ما أنا داخل النار داخل النار. هذا فقد الرجاء، هذا في حقيقته أنه اعتمد على العمل، ولما أن فقد العمل الصالح أصبح متكبراً، ولكن مع هذا الكبر فقد أيضاً التوبة. ولذلك فهذه الحكمة تؤدي بنا إلى الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى. دائماً وأبداً نعم،
قال تعالى: "ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون". العمل لا يكون معتبراً مقبولاً، كما يقول الفضيل بن عياض، إلا إذا كان بالإخلاص والصواب، وإنما قبوله بمحض الفضل من عند الله. إذاً "بما كنتم تعملون" بفضل الله، يعني كمال، كأن الآية تتضمن "بفضل الله". فالعمل الذي نوفق إليه لا... نتكبر به على أحد. الحكمة الثانية يقول فيها ابن عطاء رحمه الله تعالى: "إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوات الخفية، وإرادتك الأسباب
مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العالية". هذه الحكمة تحاول أن تبين علاقتنا مع الأسباب. القاعدة المقررة لدى عباد الله سبحانه. وتعالى أن الاعتماد على الأسباب شرك وأن ترك الأسباب جهل، إذاً لا نترك الأسباب ولا نعتمد عليها. الاعتماد هذه صفة وعمل من صفات وأعمال القلوب، لا نعتمد على الأسباب. الفلاح يلقي الحب ثم يدعو فيقول: يا رب. دائماً علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السبب الذي خلقه الله. سبحانه وتعالى لا بد منه، ولذلك يقول: "لو توكلتم على
الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا". قال العلماء: إن الطير تغدو وتروح، تذهب وتجيء، فلو جلس الطير في عشه لا يُرزق، بل إنه يخرج ويبحث عن الرزق، وربنا يرزقه، ثم يرجع وهو شبعان، يذهب. ويأتي هذا هو السبب، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج إلى أُحُد ارتدى درعين، والله يقول: "والله يعصمك من الناس"، ولكن بالرغم من ذلك لم يترك الأسباب. والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتداوي وقال: "تداووا فإن الله ما خلق داءً إلا وخلق له دواءً"، إذاً الدين.
الكلُّ يأمرني بأن آخذ بالأسباب، ولذلك عندما أكون في مرحلة من المراحل البدائية التي لا بد فيها من الاعتماد على الأسباب، لا أترك هذه الأسباب وإلا أكون قد اختبرتُ الله. ولذلك ورد في الروايات أن إبليس جاء إلى سيدنا عيسى وقال له: ألست روح الله وكلمته؟ طيب ألا تلقي بنفسك يا رب نجني، وهو كان على الجبل، قال له: اذهب يا لعين، ما كان لي أن أختبر الله، هو الذي يمتحنني ويختبرني، ولذلك ترك الأسباب. وأنت في حالة ليست حالة التجرد، لماذا تفعل هكذا؟ المتوكل على الله، هذا الكلام شهوة خفية، إرادتك التجريد مع إقامة الله لك
في... الأسباب من الشهوة الخفية، حسناً، والعكس أن الله سبحانه وتعالى أعطى إنساناً قلبه وجعله لا يحتاج إلى شيء، فإذا أراد أن يخالط الأسباب فهذا انحطاط عن الهمة العالية. وهذه الحكمة بحالها تعود بنا إلى تفسير قوله "لا حول ولا قوة إلا بالله" بمعنى أننا نتبرأ من حولنا. ومن قوتنا أننا نسلم لله سبحانه وتعالى ما يجريه علينا في هذا الكون من أعمال ومن أسباب. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.