موقفك من الأقدار | الحكم العطائية | حـ 3 | أ.د علي جمعة

موقفك من الأقدار | الحكم العطائية | حـ 3 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مع الحكم العطائية، يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري: "سوابق الهمم لا تخرق أسوار القدر"، وكلمة "سوابق الهمم" معناها الهمم. السوابق والهمة التي عند الإنسان هي سبب من الأسباب، وهو هنا يقول إن الأسباب لا تأثير لها، فهو
كأنه يعلل العلة السابقة التي شرحناها في حلقة سابقة في قوله: "إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله لك في التجريد انحطاط عن". الهمة العالية لماذا؟ لأن سوابق الهمم لا تخرق أسوار القدر. شبّه القدر وهو أمر الله سبحانه وتعالى في الكون ولا يكون في كون الله إلا ما أراد، شبّهه كأنه مدينة محصنة بالأسوار. فهل يمكن أن نخترقها؟ هل يمكن أن نفعل شيئاً على عكس مراد
الله سبحانه وتعالى؟ هل يمكن؟ أن يتحدى أحدنا ربه ويفعل في كونه إلا ما أراد هذا مستحيل عقلاً وواقعاً، هذا لا يمكن أن يكون. إذاً فالقضية هي أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، هذه الكلمة التي سوف نسمعها كثيراً ونفسر معناها كثيراً. الأسباب كما قلنا: الاعتماد على الأسباب شرك لأن الأسباب لو اعتقدت أنها هي التي تفعل فإننا نثبت شيئًا مع قدرة الله سبحانه وتعالى، ولكن الحقيقة أن
الأسباب لا تتخلف عادة، قد تتخلف في صورة المعجزة التي لا تكون إلا على يد الأنبياء الذين ختموا بسيد الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإننا لا نرى تخلفًا للأسباب حيث إننا لا نرى. مجموعةٌ من المعجزات: السكين تذبحُ وتقطعُ الجبنَ والزبدَ، هل يمكن أن نستعملَ السكينَ فإذا بها لا تقطع؟ ممكن، ففي قصة سيدنا إبراهيمَ مع سيدنا إسماعيلَ عندما أسلمَه وتلَّه للجبينِ، وبعد ذلك حاول أن يذبحَه فلم يجد السكينَ تذبح، معجزةٌ! هل يمكن أن النارَ لا تحرق؟ هذا ممكنٌ في المعجزات، لأن المعجزات...
توقف العادة ولكن سنة الله في كونه أن الأسباب تعمل. نريد إذا عقيدة تفصل بين الأمرين؛ تتمسك بالأسباب عملاً ولكنها لا تعتمد عليها قلباً، وهذا هو التوازن الذي يحتاج إلى تربية، لأننا من غير التربية سوف تميل قلوبنا إلى الاعتماد على الأسباب، وأنه إذا ما فعلنا السبب فسيحدث المسبب، وهذا. يوجد انتقاص في علاقتنا مع الله سبحانه وتعالى، فتأتي شهوة عند بعض الناس ويريد أن يترك الأسباب، وهذه مصيبة أخرى. لا تترك الأسباب لأن الأنبياء لم يتركوها؛ لأن الأنبياء علمونا أن نعتمد
على الأسباب. كان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويضرب بسيفه، وتقول فيه عائشة: "والله ما ضرب". أحداً من زوجة أو خادماً، إنما في سبيل الله في القتال في سبيل الله، وكان إذا اشتد الوطيس احتمينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أسداً في الحرب، ولكن كان لا يغضب، وقال: "لا تغضب ولك الجنة" إلا أن تنتهك حرمات الله، إذا لم يترك رسول الله صلى الله. عليه وسلم الأسباب أبداً في صلح الحديبية فوضهم حتى يفك الكماشة من المشركين أسفل المدينة ثم خرج فغزا خيبر حتى يفك الكماشة من فوق من الشمال. إذاً هذا ترتيب وتدبير وأسباب، نعم ولا بد منها، ولكن
القلب لا يعتمد عليها، القلب لا يتوجه إليها، إنما نأخذ الدواء من أجل المرض ثم نقول يا رب اشفني ونعتقد أن هذا الدعاء هو الذي شفى وليس هذا الدواء هو الذي شفى. الدواء ألم يؤثر في المكروب؟ ألم يؤثر في العضو؟ ألم يؤثر؟ نعم أثّر قطعاً، وهذا التأثير تأثير ظاهر بنفسه وظاهر بأثره، يعني نلاحظه تحت الميكروسكوب عندما نعمل أشياء أو نجري تحاليل. تختلف الحكاية قبل الدواء وبعده، أو بالأحرى، كنت مريضاً وشُفيت من المرض عندما أخذت هذا الدواء، وهذا لا نقاش فيه. السبب لا بد علينا أن نأخذه،
ولكن اعتقد دائماً أن هذا السبب إنما خلقه الله وعنده الشفاء وليس به الشفاء. إذاً هذا كلام دقيق جداً، وهذا الكلام الدقيق يؤثر. في القلب اعتمادٌ على الله، ولأنه معتمدٌ على الله، ولأنه يحب الله، ولأنه يطيع الله، فإنه لا يترك السبب أبداً. نجتهد ونذاكر ونعمل ونتعلم ونخترع، كل هذا لأن الله أمرنا بالأخذ بالأسباب، فلا نترك الأسباب أبداً. ولكن مع عدم تركنا للأسباب، لا نعتمد عليها أبداً. فهنا يقول لنا: يا جماعة... السبب أبداً ما صنع
هذا الشيء، الله هو الذي خلقها والفضل هو فضل الله. ولكي نتأكد من هذا، فإن بعض الأدوية يصفها الطبيب ولا تُحدث أثراً، حتى لو كان فقط عشرة في المائة وتسعون في المائة تُحدث أثراً، فهذا بخلق الله، وهذا بخلق الله. فالذي خلق الشفاء هنا هو الله والذي خلق المرض هنا مع الدواء هو الله سبحانه وتعالى. ما الذي تفيد هذه العقيدة؟ تفيد أننا نسبنا الحق لصاحبه، نسبنا الفضل لصاحبه سبحانه وتعالى. وهنا نشعر بمدى منة الله علينا، نحن ربنا أنعم علينا نعماً كثيرة جداً، وهنا نستعظم نعمة الله علينا. عندما أستعظم نعمة
الله عليّ أستحي أن أعصيه. أستحي أن أذنب، أستحي أن أتأخر في طاعته، أستحي أن لا أسارع لطلب مغفرته. إذاً المسائل مرتبط بعضها مع بعض. ما الذي جعل أهل السنة والجماعة يقولون إن الأسباب لا تؤثر بذاتها وإنما يخلق الله بإزائها وعندها لا بها؟ عندها، عند الدواء يخلق الشفاء، عند السكين يخلق القطع، عند النار. يخلق الإحراق، فإذا لم يخلق الإحراق ينجو إبراهيم، وإذا لم يخلق القطع ينجو إسماعيل، وإذا لم يخلق الشفاء يستمر المريض في مرضه، وهكذا أبدًا. إذا تواضعت،
إذا ارتميت على الله، إذا شكرت الله، إذا استشعرت عظمة نعمة مولاك، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، ولذلك عليك أن تعلم أن. صوابق الهمم لا تخرق أسوار القدر لأن القدر حصن حصين وهذه الهمم وإن كانت أسبابا فإنها لا تؤثر وإنما يفعل الله سبحانه وتعالى عندها لا بها لأنه في الحقيقة وفي الواقع لا حول ولا قوة إلا بالله هذه النظرة يختلف بها المسلمون عن كثير
من الفلاسفة الأخلاقيين الذين رأوا لأنفسهم جعلوا لأنفسهم قوة وجعلوا لأفعالهم تأثيراً، ولم يستطيعوا إحداث التوازن ما بين هذه الفكرة أن السبب تركه جهل والاعتماد عليه شرك. هذه الثانية كانت مرفوضة تماماً لأنه لم يكن عنده ماذا التوازن، وجعلوا أن السبب يُعتمد عليه ولا يُترك، وأنه ليس هناك في الكون شيء بدون سبب ولكن. الحقيقة أن السبب من سنن الله في كونه وأنه لا يُترك وأنه لا يُعتمد عليه وأننا نتوكل على الله سبحانه وتعالى فنفعل الأسباب وفي
نفس الوقت قلوبنا تدعو الله وتُعلي من منته سبحانه وتعالى علينا وإلى لقاء آخر أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.