نور السريرة | الحكم العطائية | حـ 7 | أ.د علي جمعة

نور السريرة | الحكم العطائية | حـ 7 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحِكَم العطائية. يقول فيها سيدي ابن عطاء الله السكندري: "لا يشككنك في الوعد هو عدم وقوع الموعود وإن تحدد زمنه لئلا يكون ذلك قدحاً في بصيرتك وإخماداً لنور سريرتك. الإنسان عندما يأتي
زمن معين وهو ينتظر فيه شيئاً معيناً ثم لا يجده ولا يجد ما وُعِدَ به فيه، فلا بد عليه أن يقرأ هذه الأحداث بطريقة أخرى، فإن الله حكيم وهذه حقيقة لا تتخلف وإن الله سبحانه وتعالى عليم وهذه حقيقة لا يمكن التشكيك فيها وإن الله على كل شيء قدير. انظر كيف تكون الأخلاق والسلوك مرتبطة بالعقيدة، فلأن الإنسان المؤمن يوقن بحكمة الله، يوقن برحمته، يوقن بقدرته، يوقن بصدق الله سبحانه وتعالى، قل صدق الله، يوقن بقوة
الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا تأخُّر الموعود عن الوقت الذي كنت تقدِّره يستلزم أن تفسِّر الأحداث بطريقة أخرى لا تتعارض مع هذه العقيدة. بعض الناس من أدنى القوم إذا لم يرَ تحقق الوعد يشكك في الإيمان، أو تراه يخاطب الله سبحانه وتعالى بأسلوب فيه قلة أدب، أو أنه يتحدث معه كأنه قد أحاط بعلمه أو... رحمته أو حكمته سبحانه وتعالى وجل جلال الله، ولأن الإنسان متمسك بعقيدته فإنه يجب عليه أن يتمسك بهذه العقيدة وأن يقرأ المسائل بطريقة أخرى، ولذلك
عندما نصر الله المسلمين يوم بدر فإنهم قرأوا الأحداث بأن ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى، وفي غزوة أحد كان المسلمون ينتظرون النصر وفعلاً رأوا النصر. بعين رؤوسهم، وهؤلاء الرماة الذين نزلوا من على الجبل الصغير أو التل، الحقيقة أنهم عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يشاركوا في الغنيمة، وحُجبت عن أعينهم الحقائق، وأن المعركة لم تنتهِ بعد، فحدثت هزيمة. فلا بد حينئذٍ إلا أن نتشكك، وهذه الهزيمة حدثت من أجل إقرار.
معنى هذه الحكمة هو أننا قد ننتصر وأننا قد ننهزم، فإذا ما انتصرنا فالفضل بيد الله سبحانه وتعالى، ويجب علينا ألا نغتر بقوتنا، ويجب علينا ألا يحولنا الانتصار إلى بلطجية أو متغطرسين، يجب علينا أن يحولنا الانتصار إلى مزيد من الشكر وإلى مزيد من التواضع لله رب العالمين، فإذا... ما كانت الثانية وحدثت هزيمة فلا نيأس، وهذا اليأس معناه انطماس البصيرة وخمود نور السريرة. إذاً هناك درجات في قلب الإنسان، تكلم عن هذه الدرجات كثير ممن تبحروا في علم الأخلاق الإسلامية
وفي التصوف الإسلامي، وقالوا إنه بالتدبر والتأمل والتتبع والاستقراء - وهذا أمر مرده إلى الوجود - وجدنا أن هناك ما يُسمى باللطائف الخمسة عند الإنسان: لطيفة القلب، ولطيفة السر، ولطيفة الخفي، ولطيفة الأخفى. وإن كل مرحلة أو كل لطيفة من هذه اللطائف مرتبة بهذا الترتيب، وإن الإنسان يتعامل أولاً مع قلبه، ثم يترقى فيتعامل مع روحه، فيترقى فيتعامل مع لطيفة تسمى بالسر، ويترقى بعد ذلك إلى أمر خفي وأخفى.
من السر السر وأخفى، ثم بعد ذلك يتعامل مع ما هو أخفى من هذا الخفاء. وهذه اللطائف الخمس تتكلم عن كيفية الوصول إلى كل درجة من هذه الدرجات، سواء بالاعتقاد وأعمال القلوب، أو بالذكر وبالمداومة عليه، أو بتصفية القلب من القبيح وتحليته بالصحيح. يشير ابن عطاء إلى مثل هذه الدراسات. الموجودة في كتب الصوفية يشير إليها هنا بقوله قدحًا في بصيرتك وإخمادًا لنور سريرتك، فهناك
بصيرة وهناك سريرة، والبصيرة لها عينان ترى وتدرك، ولكن السريرة لها نور، وهذا النور يحدث به نوع من أنواع الفهم لمراد الله سبحانه وتعالى في أحداثه وفي معانيه. نرى الناس مختلفة في هذه البصيرة وفي هذا السر نرى سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يموت ابنه فلذة كبده حبيبه إبراهيم، فتراه يقول صلى الله عليه وسلم: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون،
ولا نقول ما يغضب الله سبحانه وتعالى". يرسم سيد الخلق برنامجاً عالياً لهذا البشر. كلهم أن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، إذا فهذا الدمع لا ينقص من التوكل ولا التسليم ولا الرضا، ولكن القلب محزون ومحزون من أجل الفراق. هذه هي الحالة السامية، هذا هو حال الأولياء الكبار، هذا هو حال سيد الخلق العارف بالله صلى الله عليه وسلم. يأتينا في القصص أن الشبلي في إحدى المرات، توفي ابن للشبلي فضحك. سألوه: "ابنك مات
وأنت تضحك؟ لماذا؟" قال: "أضحك لما أعدّ الله لي من الخير في الجنة عندما جعل ابني يسبقني فيأخذ بيدي يوم القيامة ويجعله شفيعًا لي". يعني نظر إلى المسألة بنظرة بعيدة وقلبه معلق بالجنة، وقلبه معلق بأنه... ابنُهُ يدخلُ الجنةَ عند الصبرِ وعند عدمِ الجزعِ وعندما يتوكلُ، ويُضيفُ إلى ذلك شكرَهُ للهِ وثقتَهُ فيهِ ورضاهُ بفِعلِهِ. ما هذا الذي فعلَهُ رسولُ اللهِ وما هذا الذي فعلَهُ الشبليُّ؟ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أرقى وأعلى
لأنهُ لمَّا ماتَ الولدُ فإنَّ هذهِ علامةٌ من عندِ اللهِ سبحانهُ وتعالى. للفاهمين، للعارفين، أن الله يريد مني الحزن الآن. تخيل إذن القمة: هو لم يحزن جزعاً، ولم يحزن تبرماً، ولم يحزن رفضاً بأمر الله في الكون، بل على العكس، يحزن لأن الله قد أخذ ولده الآن. ومعنى هذا أنها رسالة من الله أنه عندما يأخذ الله الولد، يحزن قلب الأبوين، خاصة الأم. فهو كأنه يقول لي احزن الآن فامتثل لأمر الله فحزن،
ولما يحزن القلب تفيض العين بالدمع. إذاً حال سيدنا رسول الله هو الأعلى، وإن كان حال الشبل هو حال من الأحوال لكنه حال متدنٍ للتابع وليس حال المتبوع عليه الصلاة والسلام. نرجو الله سبحانه وتعالى أن نفهم مراد هذه. الحكم وأن يشرح الله بها صدورنا، وإلى لقاء آخر أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.