هدية الله | الحكم العطائية | حـ 8 | أ.د علي جمعة

هدية الله | الحكم العطائية | حـ 8 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحكم العطائية، يقول فيها صاحب الحكم رحمه الله تعالى ورضي عنه: "إذا..." فتح لك وجهه من التعرف فلا تبالِ معها أن قلَّ عمل عملك، فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك. ألم تعلم أن التعرف هو مورده
عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟ هنا يبين أهمية القلب وأن القضية أن القلب ينبغي. أن يكون فوق العقل وأن العقل يجب أن يكون فوق السلوك ولذلك سمي عقلاً لأنه يعقل السلوك عن المعصية وعن الوقوع في الخطأ وعن الوقوع في الخطر ولذلك سمي عقلاً لأنه يمنع ويعقل والعقال هو هذا الحبل الذي نربط به ونمنع الدابة
من الهرب أو من الحركة فالعقل هو فوق السلوك الإنساني عندما يفكر المرء أنه سيفعل شيئاً ينبغي أن يفعله بعد تفكر وبعد استعمال عقله حتى لا يكون هذا العمل ضاراً بالنفس ضاراً بالغير، لا ضرر ولا ضرار، وحتى لا يكون في هذا العمل نوع من المعصية، وحتى لا يكون فيه نوع من الفساد، ولذلك فالعقل ينبغي أن يضبط السلوك. أو أن يحكم السلوك لكن أيضا هذا العقل ينبغي أن يعلوه القلب، والقلب له بابان: باب على الحق وباب
على الخلق. باب الحق تأتي منه الأنوار، يشعر الإنسان بأنه قد فتح له هذا الفتح، معناه المعرفة، معناه أنني عرفت شيئا جديدا ومعنى جديدا من مراد الله سبحانه وتعالى في خلقه. لو أنني فُتح علي بمعرفة أن الرب رب وأن العبد عبد وأن هناك فارقاً بين المخلوق والخالق لكانت هذه المعرفة تقيني من الزلل وتمنعني من تشبيه
الإله بالإنسان أو الادعاء أن هذا الإنسان إله ما دمت قد فُتح علي أن الرب رب وأن العبد عبد لا يدخل حينئذ عقلي ولا قلبي ولا أستطيع أن أؤمن حينئذ عندما يعرض علي شخص ويقول أنا أعبد إنساناً كان بيننا، لا أستطيع لأن هناك معرفة قد تفجرت في قلبي فسيطرت على عقلي، وهي أن الرب رب وأن العبد عبد، وأن هناك فارقاً بين المخلوق والخالق، لو أنني جاءتني معرفة أنه لا يمكن إدراك
العلاقة. بين القديم والحادث بناءً على أن الرب رب والعبد عبد، الله قديم. طيب لو جاءت لي معرفة أنه يستحيل على البشر أن يدركوا كنه ذات الله سبحانه وتعالى، ربنا سبحانه وتعالى هو كما قال: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار". يعني كيف قامت صفات الله في الله؟ لا أعرف كيف قامت. صفات المخلوق في المخلوق نعم أعرف وأعرف وأنا أُنشئ كوباً من البلاستيك وأنا أصنعها كيف ألونها وأجعل واحدة زرقاء وواحدة صفراء واحدة كبيرة واحدة صغيرة واحدة
واسعة واحدة ضيقة. هذه الصفات أنا أعرفها وهي قائمة في المخلوقين كيف، لكن كيف هي قائمة بالله سبحانه وتعالى لا أعرفها، فتبقى العلاقة بين طرف أعرفه وبين طرف لا أعرفه، لكنها تبقى لا يمكن السيطرة عليها. فتح على عقلي هذا وهذا يحل لي كل المشكلات المُدَّعاة التي تجري بين الناس في قضية القضاء والقدر والمسيَّر والمخيَّر. أنا عندما أفهم التكاليف أفهمها أنني هنا في الحياة الدنيا أنا مخيَّر، ولذلك أقوم وأصلي أو لا أقوم وأصلي. باعتقادي لستُ أشعر أن هناك من يفرض عليّ أن يُسيّرني في هذا، ولذلك سننال ثواباً على الطاعات وسننال عقاباً على
المعاصي. الله سبحانه وتعالى، أنا أعتقد اعتقاداً واضحاً وجلياً وسهلاً أنه لا يكون في كونه إلا ما أراد. هذا الكلام لأنه على كل شيء قدير، لأنه حكيم، لأنه عليم، لأنه مريد. لأنه صفات الله سبحانه وتعالى التي أظهرها لنا في كتابه وآمنا بها لا إشكال فيها. الإشكال يأتي عندما نريد أن نجمع بين الأمرين: كيف أنا مختار وهذه المعصية صدرت مني اختياراً، ثم بعد ذلك تقول إن الله على كل شيء قدير وبكل شيء محيط وبكل شيء عليم وأنه هو الذي خَلْقُ هذه المعصية، آه، سؤالٌ يريد أن يجمع بين طرفين أعرفُ أحدهما ولا أعرف الآخر، وحينئذٍ فالسؤال لا محل
له من الوجود. لا نستطيع كبشرٍ أن نجيب على هذا السؤال. ويقول سيدي عبد القادر الجيلاني: "ولا نبي مرسل يعرف سر القدر، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب". لماذا؟ لأنه... نعرف طرفاً واحداً من المعادلة وهو الخلق، ثم إن الله سبحانه وتعالى لم يره حتى سيدنا موسى لما طلب رؤيته لم يره، وأنه لا تدركه الأبصار، وما دمنا لا نعرف كنه الله فلا نعرف كيف تقوم فيه الصفات، ولا نعرف ما هو الحال بين هذا القديم سبحانه وتعالى وبين الحادث. وحينئذ مع هذا الفتح الذي فتح الله لنا بمراده يكون قوة في العقيدة. ابن عطاء الله يقول: اعلم أنه لو فتح الله
عليك في شيء فأفهمك إياه وطمأن قلبك فيه، فاعلم أن هذا أفضل من كل الأعمال. واعلم أن قليل العمل حينئذ مع وضوح العقيدة هو الذي يجعل لك درجة عالية عند الله. الله مثل الأعراب الذي أتى وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: "ماذا عليَّ يا رسول الله؟" فأرشده بأنه الشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج وكذا، وهو يقول: "والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص". فقال: "أفلح وأبيه إن صدق". هذا الرجل لو صدق فيما قال بقليل العمل، وقليل العمل هي. مجموعة الفروض والابتعاد عن مجموعة المعاصي وهي محصورة معدودة فإنه يكون قد أفلح عند الله سبحانه وتعالى. ما رأيك أن الفتح إذا ما أتى في المعرفة هو
أفضل مع قليل العمل من كثرة الأعمال ولكنه لا يكون ثابتاً حيث أنه لم يُفتح عليه بفهم يبين للناس مراد الله سبحانه وتعالى. من خلقه إذا فتح لك وجهة من التعرف على الحقائق - التعرف على حقائق مثل التي ذكرناها - فلا تبالِ معها إن قلَّ عملك، فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك. فكلما ازداد الإنسان معرفة وفتحاً، فإن الله سبحانه وتعالى يكون راضياً عنه. ألم تعلم أن التعرف هو مورده؟ عليك فهذه هدية من عند الله، ولأن الأعمال التي تقوم
بها أنت مهديها إليه، وأين ما يرده عليك مما تهديه إليه، فهدية الله أعظم من هديتك. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.