هل اسافر إلى العمل وأترك والدي وأنا وحيدهما ؟ | أ.د علي جمعة

جاءتني فرصة للسفر للعمل بالخارج وأبي وأمي في السبعين من العمر وأنا ابنهم الوحيد، فهل أتركهما وأسافر أم أكون بذلك عاقًا لهما، علمًا بأنهما وافقا على سفري؟ لما أتى أحدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: "يا رسول الله، خذني أجاهد معك". قال له: "ألك والدان؟" قال نعم قال إذاً فاذهب فجاهد فيهما وتكلم العلماء على أنه لا يجوز لأحدنا أن يخرج في الجهاد إلا بعد إذن
الوالدين وهنا أذن الوالدان له بالسفر وإذا كنا نتكلم عن الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام فإنما هو أولى من الجهاد كالسعي في طلب الأرزاق أو في طلب العلم أو لغير ذلك أولى. إذا كان في الكبيرة يشترط الموافقة، ففيما هو أدنى يشترط الموافقة من باب أولى. وهنا إذن الوالدان قالا: "نتوكل على الله واذهب". انتقلنا هنا من حد الحلال والحرام واستيفاء الشروط إلى حد الورع والتعامل مع الله سبحانه وتعالى. كيف أذن الوالدان
بالسفر، حديث البخاري، حديث أهل الصخرة. أن ثلاثة دخلوا كهفاً فسقطت عليهم صخرة، فجلسوا يدعون الله سبحانه وتعالى أن يفرج عنهم. فذكر الأول عملاً صالحاً له، وذكر الثاني عملاً آخر، وذكر الثالث عملاً آخر، فانفرجت الصخرة حتى استطاعوا أن يخرجوا من هذا المأزق وأن يسلموا. منهم من قال إن أباه وأمه كان عنده، ولما أبوه وأمه... كانوا عنده، وكانوا يريدون أن يتعشّوا، فذهب
واحتال بكل حيلة إلى أن أحضر لهم لبناً لكي يشربوا ويأكلوا ويتعشّوا. أولاده جائعون أيضاً، فلما جاءهم وجد أباه وأمه نائمين، فلم يرد أن يوقظهما، وظل واقفاً إلى الصباح بسطل اللبن الذي معه، بكوز اللبن الذي معه. هذا ليس داخلاً في البر، هذا فوق. البر هذا حب، هذه معاملة مع الله، وفي وقوفه هذا كان الأولاد، يعني أبناؤه، يتصايحون يريدون
أن يشربوا، يريدون أن يأخذوا من هذا، فلا يلتفت إليهم. نعم هذا حب، إنها قضية ثانية غير الحلال والحرام. الحلال والحرام: ينام الأب والأم، ثم أذهب لأسقي الأطفال وانتهى الأمر، وغداً يحلها ربنا. أما التعلق الشديد... لخدمة الوالدين بهذه الطريقة كان سبباً في النجاة فاعتبروا يا أولي الأبصار، فنقول للرجل هذا نقول له: يجوز لك السفر وبقاؤك أولى، يجوز لك السفر حلال وحرام شريعة الذي هو افعل ولا تفعل، سافر ولكن لو بقيت اجعلها لله وانتبه أن
بقاءك سيستوجب عليك شيئاً فوق الحلال والحرام. لكن هذا الأمر من المُنجيات في حالك ومالك، ليس في حالك فقط، بل في حالك ومالك. فبر الوالدين له حدٌ شرعي بحيث أن تكون باراً ليس عاقاً، لكن الذي نتحدث عنه هو فوق البر. هذا حب البر، هذا تمكُّن البر، هذا معيشة البر، هذا حياة البر، فحينئذٍ سيكون الأمر. مختلفًا في تعامل الله معك، فبعض الناس تريد أن تقف عند حدود الحلال والحرام
"افعل" أو "لا تفعل". أعطني كلمة واحدة: أذهب أم لا أذهب؟ اذهب، فالشريعة لا تتيح لي أن أقول له لا تذهب. الشريعة واضحة: اذهب، وبقاؤك أولى وأحلى وأعلى وأرقى وأنقى. واضح الكلام؟