هل يقع الطلاق لمن هو في حالة غضب شديد؟ | أ.د. علي جمعة

تلفظت لزوجتي بقولي أنت طالق، أنت طالق. قال الأولى ماذا؟ أنت طالق، وبعدها المرة الثانية أنت طالق. يبدو أنني كنت متوتراً ولم أعرف، التوى لساني، وبعد عدة ثوانٍ قلت لها أنت طالق، وكنت في حالة غضب شديد، لا أملك ما أقول. وبعد ذلك فكرت وقلت ماذا فعلت في نفسي في هذه الحالة هل تم الطلاق أم ماذا؟ الطلاق عقدة انفصال
كما أن الزواج عقد للاتصال، فالطلاق عقد أيضاً. ولذلك فأغلب الحالات عند التحقيق معها يتضح أنه لم يكن ينوي الانفصال، بل قالها تهديداً، قالها في حالة عدم وعي، قالها في عدم تمكن، إلى آخره. ونص الإمام النووي في الروضة أن من قال لزوجته أنتِ طالق إنها كناية، ونص الإمام السيوطي
أن من نطقها بالهمزة فهي كناية لا تقع إلا إذا كان قاصداً عالماً مختاراً مالكاً لألفاظه واعياً لها، فإذا فعل هذا وقع الطلاق، وإذا لم يكن كذلك، وهذا يأتي بالتحقيق - يعني ماذا - مدركاً، يعني مدرك للزمان والمكان والأشخاص والأحوال، فلما يأتي أحدٌ ونسأله: أنا قلت أنت طالق، فهل كنت تنوي؟ فقال: والله ما أنا عارف، كانت مشاجرة وأنا قلت فيها هكذا. هذا الكلام غير مقبول، ليس هذا ما هو مكتوب في الكتب. حتى أين كنت؟ قال:
لا أعرف، نعم، كنت في الصلاة أو في وقت النوم، لست أتذكر، أظن. في الصلاة، لا، بل كنت أجري بين النوم والصلاة وأنا كالفولة في النار، ولا أعرف، لست أدري، لست مدركًا. خلاص، لا يوجد طلاق. هذا مغفل، هذا ليس مُطلقًا، هذا مغفل، لأن الذي يجعل الطلاق في فمه مثل اللبان هكذا، نقول له: أهلًا، ها هي الفتوى، إنه مغفل. حسناً، لم يدرك المكان. قال لها: كنت في الصلاة. قالت: هل كنت واقفاً أم جالساً؟ قال لها: لا أتذكر إن كنت واقفاً أم جالساً. لا، لست أعرف. حسناً، إذاً
فقد فقد الحال، إذاً هو غير مدرك. هل كان ذلك في الليل أم في النهار؟ قال لها: كان... كان... هكذا طوال الوقت. فهي جالسة قالت له: كان بعد العشاء. إنها هي التي تغيظه. فهي واعية يعني كيف تراها؟ كل شيء. حسناً، إذا كان هذا لا يعرف الزمان فهو غير مدرك. حسناً، أكنت غاضباً أم لم تكن غاضباً؟ قال لي بصراحة: أنا أصلاً لا أتذكر أنني قلت لها أنتِ طالق، هي التي قالت ذلك. قلت له: حسناً، ولماذا صدقتها؟ قال: لأنها كانت مسجلة عليّ وسمعتني صوتي وأنا أقول لها أنت طالق، هذا ليس طلاقاً، ليس طلاقاً هكذا
لأنه هذا الإدراك في المرتبة الثانية، الإملاك يعني ماذا؟ يعني لست قادراً على السيطرة على نفسي، خرجت من فمي مثل الرصاص، فخرجت هكذا، لكن ليس هناك شيء، ألست أشرب فنجان قهوة وأنا هكذا أجلس. بعد ذلك، تعالَي يا بنت الحلال. أنا فكرت ووجدت أننا لا نصلح لبعضنا، فقلت إننا نطلق أفضل. لا، ليس هكذا، إنه كالفول في النار، وأنا جالس غير مهتم وغير صابر. ففي حالتنا هذه، غالباً لن أوقع الطلاق، ولكن كل هذا فقه، فأين الواقع؟ لا بد... يذهب إلى دار الإفتاء ويجلس مع أمين الفتوى الذي سيجلس ليحقق مع كل هذه التحقيقات، وفي النهاية سيقول له: "لا، هكذا لا يوجد
طلاق". ويُعرض علينا حوالي ثلاثمائة ألف حالة طلاق بهذا الشكل في السنة، صحيح منها ثلاثة في الألف، يعني في تسعمائة حالة قلنا فعلاً وقع الطلاق. وفي مائتين وسبعة وتسعين ألفاً قلنا لم يقع الطلاق، فلما جاء بعضهم وقالوا لا يقع إلا مكتوباً، قلنا له اسكت أنت، فيدك ليست في الصنعة. فهو أصلاً لو ذهب للمفتي سيقول له غير واقع، لكن حكاية الكتابة معناها أنه سيجلس ويقول صباح الخير فلم ترد عليه، فقال لها حسناً. أنت طالب، أنا
طالب. قال لها: "نعم، أنت طالب، نعم، لأنك لم تردي عليّ في الصباح". ثم بعد ذلك طلقتني هكذا. قال: "لا، لا. الشيخ قال إن الطلاق لا يصح إلا بمكتوب". في الغداء، ماذا فعلت؟ قالت له: "لم نفعل شيئاً، سنطلب طعاماً للتوصيل اليوم". حسناً، أنت طالب. وستصبح مهنة وسيتلاعب الناس بدين الله، يعني شخص ينظر إلى أن هذا سيقلل من حالات الطلاق، إلا أنه مع هذه الثقافة السائدة سينتشر الطلاق وسيستهين الناس به، ولا نعرف حينها إذا سمعت الفتاة "أنت طالق" فقدناها عشر مرات، ذهبت لأبيها وقالت له: "هذا طلقني عشر
مرات"، فماذا نفعل حينئذٍ؟ حينها الأمن... يختل المجتمع إذا وجب علينا ونحن نفتي أن نفتي ليس هرباً، بل نفتي طلباً. يجب أن ننتبه إلى مآل الفتوى قبل أن نصدرها. يا ترى ماذا ستفعل هذه الفتوى لو قلنا للناس إن الطلاق لا يقع إلا بمكتوب عند المأذون؟ هل سيستهين الناس بالطلاق؟ إذا كنا نمشي في الأسواق نجد الرجل المسكين يحلف بالطلاق على... الطماطم والآخر يحلف بالطلاق أنه ليس كذلك، فالناس تستهين بأمرٍ عظيم. ثم تأتي أنت لتمكنهم من الاستهانة أكثر. هذا يحدث لو لم يحصل شيء، حسناً. لكن سيحدث أن تتشكك الفتاة نفسها: "ما
وضعي الآن؟ لا أعرف هل أنا زوجته أم لست زوجته، أم ماذا قال بالضبط؟" ثلاثين مرة أنت طالق، وهكذا. أنا لست مطمئنة. من الأفضل والأورع أن نُطلّق. إنها فتوى عجيبة غريبة، من خارجها رخام ومن داخلها سخام، أي ضلال مبين. ولذلك يجب علينا، إخواننا، أن نعلم أن هذه الفتوى صناعة صانع، فلا بد أن تكون من شخص حرفي وليس من شخص اكتفى بالقراءة. وخلاص لا يصح ذلك، لا بد من إدراك الواقع ولابد من إدراك المآل ولابد من إدراك المصالح ولابد من إدراك المقاصد ولابد من إدراك الإجماع ولابد
من إدراك العرف والعادة ولابد من إدراك النص ولابد من إدراك أنها يعني صناعة اسمها صناعة الإفتاء، فلا يصح أن كل واحد حتى لو كان أستاذاً أو فقيهاً أو غير ذلك، فإنه مذكور في الكتاب أنه لا ينبغي أن يتصدر فيما لا يُحسن ولا يعرف. فهذا الشخص لا يعرف أركان الإفتاء، فكيف سيُفتي هنا، وكيف سيكون حاله وهكذا.