وقال الإمام | أ.د علي جمعة | الحلقة 08 | نظرية تفريق الأحكام

وقال الإمام | أ.د علي جمعة | الحلقة 08 | نظرية تفريق الأحكام - قال الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مبادئنا التي اهتممنا بها من خلال احترامنا لتراث آبائنا وأجدادنا وسلفنا الصالح أن نحيي النظريات التي أشاروا إليها في كتبهم وهي والحمد لله كثيرة، منها نظرية تفريق الأحكام والتي ستكون موضوع لقائنا اليوم. ومنها نظرية اللحظة الدقيقة أو اللحظة اللطيفة، ومنها نظرية ذهاب الحكم بذهاب المحل، ومنها
غير ذلك من النظريات التي لم نر الناس قد اهتموا بها، حتى إن القانونيين وهم يستفيدون من الفقه الإسلامي وقد استفادوا منه استفادة كثيرة في كثير من الأمور كنظرية العقد وكالتعسف في استعمال الحق وكنظرية الضرورة وهكذا لم يستفيدوا من هذه النظريات استفادة حقيقية ولم نجدها عندهم كما وجدناها عندهم وهم يتحدثون عن الضرورة التي تحدث عنها الفقهاء في باب الإكراه ولا يشيرون إلى الفقه الإسلامي في هذا المقام مثلا
ولذلك فمن مبادئنا إحياء النظريات الفقهية المهمة التي لم ينتبه إليها كثير من الناس وهذه النظرية التي معنا اليوم والتي نسميها بتفريق الأحكام، هذا اللفظ استعمله الفقهاء الشافعية وضربوا له مثالا، لكن استيعابه على حقيقته يجعل الفقيه أكثر تمكنا من الدراسة بعمق، خاصة أثناء الفتوى والتعامل مع الحالة المعروضة عليه. تفريق
الأحكام ضربوا له مثلا نشرحه باستفاضة من أجل أن نضع أيدينا على هذا المعنى الجليل. معنى تفريق الأحكام وكيف يستوعب الفقيه وكيف يستوعب من بعده رجال القانون في صياغاتهم وفي حكمهم وفي تحليلهم للأحداث مثل هذا الأمر فيكونوا أقرب إلى تحقيق العدالة والقضاء على المتناقضات وإزالة الحيرة من عن كاهل القاضي عندما يقع بين أمرين متناقضين في الظاهر
ويمكن أن نحل هذا التناقض عن طريق نظرية تفريق الأحكام مثالها أن رجلا جاء إلى القاهرة وبحث عن امرأة يتزوجها وذلك أنه في بلده في الأرياف كان قد تزوج امرأة ولكن أباه أمره بتطليقها فاستجاب لأبيه وطلق زوجته وكان يحبها ولا يريد ذلك إلا أن ضغط العادات والتقاليد وابتغاء بر أبيه جعله يستجيب ويطلقها ثم
إنه بعد ذلك تزوج امرأة أخرى في البلد فإذا به أيضا يأمره بطلاقها فيستجيب له لأنه إذا كان قد طلق من أحب فإنه يطلق هذه حيث إن المشاعر لم تكن متأججة كحالتها الأولى فطلقها وإذا به يتزوج ثالثة فيأمره أبوه بطلاقها ويئس من هذا الأب الذي لا يريد له أن يتزوج فيرحل عن البلد وينزل إلى القاهرة ويبحث فيجد أن الناس ملتزمون طيبون ويسأل عن هذه الفتاة فتخبره
الأم أن رجلا جاء قبل ذلك من مكان هي لا تعرفه وكان يسمي نفسه باسم معين وتزوجها على سنة الله ورسوله قبل إنشاء الوثائق وهكذا إلى آخره الوثائق بدأت في مصر سنة ألف وتسعمائة مائة واحد وثلاثين وأنجب منها هذه البنت فهو زواج صحيح وهذه البنت هي ابنة ذلك الرجل اطمأن هذا العريس لزوجته الجديدة وتزوجها وأنجب منها وعاش معها فيما يقولون ثبات ونبات وتوفيت هذه الأم وفي يوم من الأيام جاء الأب
الذي أمره بالطلاق مكررا في بلده جاء إلى القاهرة يزور ابنه ويرى زوجته فلما فتحت له الفتاة قال لها من أنت قالت له أنا زينب قال زينب بنت فاطمة قالت نعم أمي كان اسمها فاطمة قال لها كنتم تسكنون خلف الأزهر في حي الأتراك رقم خمسة قالت نعم كنا نسكن في هذا البيت فعلا قال لها يا حبيبتي يا ابنتي بالحب وقال لابنه إن هذه ابنتي
من فاطمة وإنني جئت إلى هنا في سنة كذا وتزوجت أمها فاطمة وأنجبت الطفلة واسمها زينب سميناها زينب ولكنني لسبب أو لآخر طلقتها وعدت إلى البلد. الابن الذي كانت له تجربة مريرة مع الأب فطلق زوجته الأولى والثانية والثالثة ظن أن هذا الرجل اختلق القصة من أجل أن يطلق زوجته الرابعة التي أنجب منها والتي أحبها وأحبته وأصبح الوضع كالآتي: رجل يدعي نسب فتاة يمكن
أن تكون فعلا ابنته، هو اسمه محمد وكان يسمي نفسه باسم شهرة في الوسط "زكي"، فهي نعم زينب بنت زكي، لكنه يقول: هذا اسم الشهرة الذي كان لي وأنا محمد وأنا أبوها هذه دعوى وزوج ينكر هذه الدعوى ويقول إن هذا الرجل يدعي هذا النسب من أجل إفساد حياتي الزوجية كما فعل مرارا وتكرارا من قبل فإلغاء هذا النسب يتيح له أن يستمر في تلك العلاقة الزوجية لأنه ينكر أن تكون زينب أختا له من
أبيه والرجل يجوز له ينسب زينب إليه لأنها مجهولة النسب، لا نعرف من هو زكي هذا وأين أراضيه، وماتت المرأة التي تزوجها، ولذلك فهذه مجهولة النسب، وإن كانت في نسب صحيح لكنه مجهول، فيجوز لهذا الأب أن يدعيها، وأصبحت لدينا الآن مشكلة: الأب يدعي بنوة زينب والزوج يرفض، لو صحت نسبة الأب لزينب لكانت لهذا الرجل وحينئذ فعقدهما يفسخ فورا
ولا يجوز له أن يستمر مع هذه الحالة ولو أن هذا الرجل كذب في دعواه فإنه يستمر فماذا نصنع في هذه القضية أنصدق الأب ونحكم على الزوج بفسخ العقد أم نصدق الزوج وننفي نسبة هذه المرأة لهذا الرجل كابنة ماذا نصنع أمامنا طريقان طريق نفي النسب وإثبات الزوجية أو نفي الزوجية وإثبات النسب لأنهما متعارضان فجاءت هذه الفكرة وهذه النظرية تحل هذا الإشكال على الوجه التالي:
من الذي قال إنه لا بد لنا من اختيار واحد من الطريقين؟ يمكن أن نختارهما معا وستحدث هذه المفارقة: نثبت النسب ونثبت الزوجية. ما معنى هذا؟ يعني نسبت النسب بين زينب وأبيها المدعي ونجعلها قاصرة عليهما لا تتعدى إلى غيرهما وبذلك ترث زينب عندما يموت ذلك الرجل منه ميراث الابن من أبيه وفي الوقت نفسه نعتبر
إنكار الزوج وتستمر الزوجية نفرق الأحكام فنعطيها الميراث لأن الرجل أدخلها في نسبه ونعطيها الزوجية لأن الزوج أنكر ذلك النسب فالنسب منكور من جهة لا علاقة لنا بأن يؤثر في ذلك النسب، هذا الإنكار ولا أن يؤثر إثبات النسب في بقاء الزوجين، وهذه هي نظرية تفريق الأحكام، هذه النظرية ليس لها مثيل في كتب القانون، لم يتحدث عنها الفكر
القانوني وتحدث عنها فقهاء المسلمين، وهناك أمور مثل هذه نضطر فيها إلى التفريق. الأحكام لأننا نشعر أن العمل بأحد الطريقين ترجيح بلا مرجح وكأننا نتجرأ على ظلم أحد الطرفين ومن أجل ذلك يبقى الحال على ما هو عليه في كل من الطرفين ونأخذ بالطريقين فنورث هذه البنت من أبيها ونورث أيضا الأب منها إذا ماتت قبله وعلاقة الزوجية
تظل مستمرة كما هي بذلك يحدث لغز أو مسألة تقول مثلا أنه هل هناك صورة يتزوج فيها الأخ أخته، قالوا ليس لنا في الإسلام صورة يتزوج فيها الأخ أخته إلا هذه التي سميناها أخته باعتبار دعوى أبيه وباعتبار إثبات النسب من أبيه وسميناها زوجة بالحظ غير معرفة بل بشبهة قامت في ذهنه شبهة الفاعل مثل يشرب الإنسان شيئا يظنه ماء ثم يتبين أنه خمر
فلا إثم عليه إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ولكن هي شبهة قامت لديه أن هذا ماء والعكس لو أن رجلا أقدم عليها وهو ضرير أعمى لا يبصر فبعد أن انتهى من مضاجعتها قالت له تعرفينني يا بشار؟ قال: سبحان الله، من أنت؟ أنت زوجتي، ما أجملك في الحرام وما أقبحك في الحلال. فطرته انعكست من كثرة ذنوبه ومن كثرة تجرئه على هذا الفعل الخبيث، حتى أنه استمتع بها متوهما أنها أجنبية ولم يستمتع بها حين كانت زوجة شرعية. فطرة
منعكسة وأمور منكوسة هذه الحال. هي التي نتحدث عنها في الشبهة التي تقوم بالفعل ولكن الشبهة هنا عندما تحدث أنه جامع امرأة على أنها زوجته فبانت أجنبية، الحنفية يقولون لا ينتقض الوضوء حتى لو كانت أجنبية، إذن هذه شبهة يحتاط الإنسان احتياطا ليس واجبا وإنما مندوبا، الشبهات والاحتياط وكيفية التعامل معها مع نظرية الاختيار مع نظرية تفريق الأحكام تمثل فكرا معينا يخرج بنا إلى طريق سوي أيضا علاقة تفريق الأحكام
بقضية تغيير المذهب وتغيير المذهب هذه لها ارتباط بتفريق الأحكام ولكن بطريقة أخرى إذا كان هناك شبهات مذهب باختلاف المذاهب فهل يجوز لرجل وهو بعد ما كان غائبا أتى ووافق على هذا الحال فهو الآن موافق فجاءوا بالرجل وعقدوا عقدا جديدا وغيروا مسلكه، فاستباحوها على مذهب أبي حنيفة الذي لا يشترط الولي، ثم لما حدثت الطلقات الثلاث استباحوها بعقد جديد فيه ولي على مذهب الإمام الشافعي حتى يتخلص من الطلقات الثلاث. هذا أيضا له علاقة بقاعدة "لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد" وهي
قاعدة فقهية واسعة سيدنا عمر وهو يقول هذا على ما قضينا وهذا على ما قضينا، ما حكم تغيير المسلك؟ هل هو مناسب أم غير مناسب؟ هل فوائده أكثر من مساوئه أم أن العكس مساوئه أكثر من فوائده؟ أمر يحتاج إلى بحث والذي درس ولم يأخذ هذا الأمر حتى الآن الباحثون بمأخذ الجد فنريد أن نحيي تلك النظريات وأن نناقشها وأن نربط بعضها ببعض حتى نتوغل في الذهن الفقهي المسلم عبر العصور. تغييرات مثل هذه حدثت في النصف الأول
من القرن، نزاع بين أحد علماء الأزهر وبين الشيخ النجدي والشيخ الشافعي والشيخ محمد سليمان وآخرين في المثال الذي ضربناه، وألف العالم الأزهري كتابا اسمه الهداية يرد فيه على المشايخ بأن هذا أيضا تغيير المسلك لا يجوز أما المشايخ الشيخ النجدي والشيخ محمد سليمان كانوا يرون أن ذلك يجوز بنص للرملي في شرح المنهاج المسألة تحتاج إلى توسع وإلى دراسة وإلى تأن حتى نخرج بمسألة علمية لكن من مبادئنا التي ندعو إليها والتي نريد أن يتحقق بها الشباب إحياء النظريات التي وردت في الفكر الإسلامي،
إحياء هذه النظريات ودراستها وربطها بالواقع ورؤية ما إذا كان بإمكاننا أن نجعلها أدوات أم لا. أي أننا لا ندعو إلى إحياء نظرية بعينها حتى نصل إلى أهداف معينة، دون أن نرى المفاسد والمصالح المترتبة على ذلك ونقيس بميزان العدل. مثل ذلك المقصود والمبدأ الذي نسير عليه هو الاستفادة من تراثنا بكل ما فيه من حكمة ومن عدل ومن تسامح ومن ضبط للأمور لم نره في غيره من أفكار البشر، الإنتاج الإسلامي الفكري
في إحياء النظريات هو أساس من أسس مبادئنا التي ندعو إليها، وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام. عليكم السلام ورحمة الله