وقال الإمام | أ.د علي جمعة | الحلقة 09 | إحياء نظرية اللحظة اللطيفة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مبادئنا أن نبحث عن النظريات الفقهية التي ذكرها علماء السلف الصالح والتي لم تلق اهتماماً أو انتشاراً بين جمهور العلماء ولا طلاب العلم، ولم تلق أيضاً انتشاراً عند القانونيين الذين أخذوا النظم القانونية. من الفقه الإسلامي نبحث عن هذه النظريات التي نص عليها الفقهاء ونحاول أن نفهمها وأن نتعمق فيها وأن ندرسها ثم نحاول بعد ذلك أن نستعملها في حياتنا المعاصرة وفي
بنائنا الفقهي وبناء عقلنا الشرعي من هذه النظريات نظرية قلما يلتفت الناس إليها وهي نظرية اللحظة اللطيفة ونظرية اللحظة اللطيفة نظرية تحاول أن تصحح عقودًا من غيرها من غير هذه النظرية، كان يمكن أن تكون عقودًا فاسدة وليست صحيحة، وحينئذٍ لا يترتب عليها آثارها، وإن كنا في أشد الحاجة الدينية وفي أشد الحاجة الاجتماعية وفي أشد الحاجة الاقتصادية
أو السياسية إلى ترتب آثار ذلك العقد، مما يدفعنا إلى القول بصحته وعدم. فساده، فلو أننا طبقنا القواعد العامة على هذا العقد لوجدناه غير صحيح، ولكننا بواسطة نظرية اللحظة اللطيفة يصبح هذا العقد صحيحاً وتترتب عليه آثاره. نعم، نحن أمام نظرية في الحقيقة منسية، ولكنها تستحق الدرس وتستحق التأمل. تكلموا عن نظرية اللحظة اللطيفة مثلاً في باب العتق، باب
العتق أو كتاب العتق. الذي يرى كثير من الناس الآن أنه بعد انتهاء الرق وتحرير العبيد وزوال العبودية والحمد لله رب العالمين لأن الشرع الشريف جاءنا وهو يتطلع إلى الحرية، يرون أننا لا ندرسه وهذا أمر خاطئ لأن هناك قواعد ومناهج في هذا الباب يمكن أن يُستفاد منها في المعاملات المالية ويمكن أن يُستفاد بها. فيما يتعلق بالاقتصاد أو بالاجتماع أو بشؤون البلاد والعباد، ولذلك فإن إهمال دراسة جزء من التراث في الحقيقة يخرج عن التفكير العلمي. إننا نريد أن
ندرسه من أجل الوصول إلى المناهج الكامنة فيه والقواعد الضابطة له، لأن هذه المناهج وهذه القواعد تساعدنا على حسن التفكير وعلى حسن إصدار الفتوى وحسن. استنباط الأحكام ويجعلنا مستفيدين من نتاج ذلك الفكر، فلا نقف عند مسائله ونتجاوز الزمان والمكان ونستعمل مناهجه في إلغاء الرق في العالم كله من خلال معاهدات دولية. لقد حرر إبراهام لينكولن العبيد في أمريكا، ودخلت مصر وكانت من أوائل الدول الموافقة على تحرير الرق في أواسط القرن
التاسع عشر، ودائماً الشرع يتطلع إلى الحرية. ولذلك ضيّق الشرع الشريف موارد الرق. كان الرق في القديم سببه الاختطاف، فحرّم الشرع الاختطاف ولم يجعله وسيلة شرعية لاستباحة وضع اليد على الرقيق، فسدّ هذا الباب. كان من موارده المديونية؛ أن يكون الإنسان مديناً للآخر، فالآخر يضع يده عليه بهذا المال وكأنه اشتراه من نفسه بدينه. كان من موارد هذا... أن يبيع أحدهم من الفاقة والفقر والضيق أبناءه لآخر فيضع هذا الآخر
يده عليهم في مقابل أنه قد اشتراهم من أبيهم، كان من جرّاء ذلك ما تفعله بعض القبائل من توريث المرأة عندما يموت زوجها، فكانت تُعَدُّ من الميراث الذي يرثه ابنه أو أخوه أو الوارث، فأبطل الشرع هذا. وحرّمه تحريماً شديداً. كان من موارد هذا أيضاً الحرب، فكانت الأسرى تُضرب عليهم مسألة الرق، وكان هذا نظاماً عالمياً. جاء الشرع وأبقى هذا على سبيل المعاملة بالمثل، ثم خيّر الإمام أنه هو وحده الذي يضرب الرق إن أراد، لكن يمكن أن
يبادل الأسرى ويمكن أن يقبل فيهم الفداء. ويمكن أن يعفو مجاناً من غير مالٍ ولا مقابل مالي، وكل ذلك طبقاً لمصلحة المسلمين وللتفاوض مع العدو الذي انتصرنا عليه. وقد تكون لدينا أسرى، كما قد يكون تحت يد العدو أسرى أيضاً، فتتم عملية التبادل أو يتم أي شيء في المفاوضات، وهذا بيد الإمام. فضيّق مورد الرق، وبعد ذلك فتح الباب واسعاً. للحرية فجعل عتق الرقبة من الكفارات وجعل عتق الرقبة عندما يسيء المالك أو السيد للعبد وجعل عتق الرقبة عندما يتملك أحدنا أصوله
أو فروعه فإنه يُعتق عليه وجعل عتق الرقبة عن طريق الوصية والتدبير، والتدبير معناه أن الإنسان عندما يموت فإن عبده يُعتق لوجه الله ويذهب في حال سبيله وجعل أيضاً من المحررات أم الولد، فلو أن هذه الجارية حملت من سيدها فإنها لا يجوز بيعها. هذا من ناحية، ثم إنها تتحرر بمجرد موت الأب أو الزوج (أب الولد). هذا زوجها السيد، لأن هذا الولد قد حررها. إذاً فتح لنا أبواباً كثيرة، وجعل أيضاً العتق لوجه الله من الثواب. الكبيرة إذا أراد الإنسان أن
يحرر نفسه فإنه يكثر من العتق، فجعل العتق شيئاً نتطلع إليه وجعله شيئاً يُثاب عليه الإنسان، ولذلك فتح باب التحرير والعتق من ناحية وضيّق الموارد من ناحية ثانية، وكأنه يريد أن يُلغي هذا النظام. ظلّ هذا النظام إلى أن اتفقت الدول كلها لأن أصله كان. على المعاملة بالمثل فما دام أصبحت هناك قوانين تحرم ضرب الرقة على الإنسان فنحن أول من يبادر إليها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديبية: "والله لا يأتوني بخطة يعظمون فيها حرمات الله إلا
وافقتهم عليها" وهناك رواية: "والله لا يأتوني بخطة يعظمون فيها الحرم" وهناك رواية يعظمون فيها الرحم، وكل ذلك معناه أنه لا يأتينا أحد بخطة رشد إلا ونحن نوافق عليها ونبادر إليها، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها. نرجع مرة أخرى بعدما شرحنا حال الرق والاهتمام بدراسته من أجل استنباط المناهج والقواعد حتى تفيدنا في حياتنا إلى صورة ذُكِرَ فيها. وضع العلماء نظرية "اللحظة اللطيفة"، وهي على سبيل المثال: أنني ذهبت إلى السوق
ووجدت عبداً فاشتريته. يحرم على الإنسان أن يتملك ابنه أو أن يتملك أباه، أو بمعنى أكثر شمولاً: أن يتملك أصوله (الأب، الجد) أو أبناءه أو فروعه (الابن، الحفيد، ابن الحفيد) وهكذا. فعندما نقول الابن والأب إنما هي أمثلة. للأصل والفرع فيحرم ذلك، لكنني دفعت المال وأخذت ذلك العبد فجأة، وبمراجعة المستندات اتضح أن هذا العبد هو أبي أو أن
هذا العبد هو ابني، وعلى ذلك فقد كان هناك مانع أصلي يمنع من صحة ذلك البيع. لو سرنا وراء القواعد العامة وأبطلنا البيع توصلنا إلى نتيجة أنني أسترد مالي. مِن البائع الذي باع لي هذا العبد بالقِصَّتين، أبي أو ابني، استردَّ المال وهو يستردُّ العبد ليبيعه إلى شخص آخر، ويظلُّ هذا الإنسان عبداً. ولكن الشرع متشوِّف ويرغب ويريد ويحبُّ أن يحرر العبيد. فلو سِرنا وراء القواعد العامة أبطلنا العقد فأبطلنا
آثاره، والنتيجة أن تظلَّ العبودية قائمة. العبودية قائمة ضد مراد الشرع. الشرع لا يريد إلا أن تظل العبودية قائمة. فعندما سرتُ وراء القواعد العامة وصلتُ إلى نتيجة ضد مراد الشرع. فماذا أفعل؟ هل أستثني؟ أو ماذا أفعل في هذه الحالة؟ يعني هل أهدم القواعد العامة وأبيح للإنسان أن يتملك أباه أو ابنه أيضاً؟ وصلنا إلى نفس النتيجة. التي فيها تصحيح
صحيح للبيع ونقل الملكية من البائع إلى المشتري، إلا أن الشرع أيضاً لم يحقق مراده من التحرير، فأتى الفقهاء بفكرهم الثاقب بنظرية اللحظة اللطيفة. وما اللحظة اللطيفة؟ قالوا: سنتصور لحظة لطيفة ندخل فيها هذا الإنسان في ملك المشتري لكي تبرأ ذمته، ثانية واحدة بتعبير الفيزياء الحديثة. لا أعرف ستين ألف ولا شيء من الثانية. لحظة لطيفة دخل في ملكي ثم
تبين بعد ذلك المانع وهو أن هذا الذي دخل في ملكي كان أبي، فلا بد أن يخرج فوراً لأن ملكي له يخالف الشريعة. فلما كان ملكي له يخالف الشريعة خرج مرة أخرى وفوراً من ملكي. نظرية اللحظة اللطيفة: تحرير ذلك الأمر أولاً؛ سأصحح البيع وإن كان تصحيح البيع مخالفاً للقواعد العامة، وإنما صححته لأنني تصورت لحظة لطيفة دخل هذا العبد في ملكي، ثم بعد هذه اللحظة اللطيفة وبعد ما مضت، تبين
لي أن هناك مانعاً يمنعني من تملكه لأنه أصل لي، فخرج من ملكي. في ملكي في لحظة لطيفة بعد مضيها خرج من ملكي كالشعاع الذي ينزل على سطح المرآة ثم ينعكس فوراً مرة أخرى، فملامسة الشعاع لسطح المرآة تمت في لحظات لطيفة، لم تمتص المرآة الضوء وتكتمه عن الانعكاس كشأن كثير من الأجسام، ولكنها عكسته، نزل عليها في اللحظات اللطيفة وانعكس. لحظات دخل في ملكه وخرج من ملكه في أول اللحظة
وآخر اللحظة، لحظة لطيفة جداً. إذاً، فنظرية اللحظات اللطيفة مكّنتني من تصحيح العقد أولاً، وثانياً من تنفيذ رغبة الشرع الشريف في حرية الإنسان. وبدونها كنت سأقع في الترجيح بلا مرجح، والحكم بالهوى، ومخالفة القواعد بلا مبرر ولا تفسير منطقي. هذه اللحظة اللطيفة مهمة في كثير من التصرفات. هل ذكر الفقهاء مرة أخرى اللحظة اللطيفة وبنوا عليها أحكاماً بعدما فهمنا كيف
يفكرون من أجل أن يصلوا إلى تحقيق مراد الشرع الشريف من ناحية، وإلى عدم مخالفة القواعد العامة من ناحية أخرى، ومن أجل تحقيق المصالح المنوطة بتفكيرهم من ناحية. ثالثاً: هل ذكر الفقهاء اللحظة اللطيفة التي تحتاج إلى دراسة والتي تتبع في الفقه الإسلامي لرؤية أين طبق الفقهاء هذه النظرية ثم ما ضوابطها ثم كيف نطبقها في حياتنا المعاصرة؟ نراهم وهم يتكلمون في باب الوقف، عندنا الوقف
يخرج الشيء من ملك الإنسان إلى ملك الله سبحانه وتعالى، الوقف هو... حبسُ عينٍ مُعيَّنة؛ إخراجها من مِلكه وجعلها في مِلك الله والوقف الخيري، وجعل إيراد وثمرة هذه العين في الخيرات. فأنا لديَّ عقار أُؤجِّرُه ويدر عليَّ أموالاً، وهذه الأموال أنفقها في سبيل الله على طلبة العلم، وفي مجال الصحة، وفي مجال التكافل الاجتماعي، وفي مجال البحث العلمي، وفي
مجال الأمن والتأمين. المجتمع وحياة الناس في أي مجال من مجالات الخير، هذه العين عندما أموت لا تكون في تركتي لأنها خرجت من ملكي إلى ملك الله وأنا حي. في بعض الأحيان يريد أحدهم أن يوقف وقفاً وأن يوقف عيناً، وأن يكون ثمرة هذا الوقف والعين لوجه الله، لكنه هو في أشد الحاجة. إليها وهو حي فماذا يمكن أن يفعل. هناك خطة أخرى اسمها الوصية، والوصية تصرف
موقوف لما بعد الموت. التصرف الموقوف لما بعد الموت يسمى وصية، ولكن لها شروط. من شروط الوصية ألا تزيد عن الثلث، هذا من شروط الوصية عند جماهير العلماء، خلافاً لما اختاره الفقيه المصري أو الفقه. لم يُجز الفقه المصري في فتواه الوصية للوارث استناداً لحديث ورد في ذلك، وإن كان في أسانيده مقال: "لا وصية لوارث" - طبعاً إلا بإذن الورثة. ولكن نظراً لعدم وصول هذا الحديث في الصحة إلى درجة الاحتجاج المناسب، ولأمور أخرى، أخذ الفقه المصري
برأي بعض من قال إن الوصية تجوز. للوارث لكنها في حدود الثلث لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر: "الثلث والثلث كثير"، يعني أقصى شيء هو الثلث. الرجل له أن يوصي بثلث ماله، هو يريد أن إيراد هذه العين يكون لله بعد وفاته. قلنا له: بعد وفاته أمامك الوصية. قال: ولكن هذه العين أكثر من... ثلث مالي وأنا نويت في قلبي أن تكون هذه العين لله وأنا أرى احتياج المجتمع احتياجاً كبيراً للجهة التي أضع فيها هذه الأموال، ولعلي أرى أيضاً أن أبنائي أو ورثتي
ليسوا فقراء ولا في حاجة إلى هذا، وإنما الحق أحق أن يُتبع، ولذلك فأنا أريد شيئاً أحقق به الغايتين أن... أريد أن أخصصها لشيء يستمر مدى حياتي، ثم مرة أخرى أن أخصصها بعد وفاتي لجهة الخير، للتعليم، لطلبة العلم، للعلاج، للصحة، للأمن، أو لغير ذلك من المجالات التي أرى أنها أكثر وجوباً، وأنني سأكون مقصراً لو قصرت في ذلك. أخشى على نفسي أن أطلب من الناس في حياتي، ولذلك أنا محتاج إلى تخصيصها. وأنا مسطور بها، ولكن أيضاً لا أريد أن تكون وصية لأن الوصية تكون في حدود الثلث، وهذه
قد تكون أكثر من الثلث، فماذا نفعل؟ فتكلم العلماء عن اللحظة اللطيفة وهو أنه يوقف هذه العين قبل وفاته بلحظات لطيفة، فيقول: "أوقفت هذه العين بدءاً من اللحظة اللطيفة قبل وفاتي"، فينفذ هذا. الوقف ويسير وقفاً، وعندما يموت الرجل لا تُعَدُّ هذه العين من التَّرِكَة أصلاً، ولمَّا لم تكن من التَّرِكَة فهي خارجةٌ عن الوصية، لأن الوصية جزءٌ من التَّرِكَة، وبقية التَّرِكَة تُورَث. هذه أصلاً ليست تَرِكَة، هذه تبرَّع بها وقفاً لله،
ونُفِّذَ هذا الوقف ابتداءً من لحظة لطيفة قبل وفاته مباشرة، فنُحقِّق. له مصلحته ونحقق له رغبته في فعل الخير فهذه أيضاً اللحظة اللطيفة، اللحظة اللطيفة التي تمكننا من المصالح. هذا الفكر وهذه النظرية يمكن أن نستفيد بها في المعاملات المالية وفي الشخصية الاعتبارية التي سبق أن فصلنا بعض تفاصيلها، وفي الشخصية الاعتبارية يمكن أن نستحضر اللحظة اللطيفة
في الشراء والبيع وأن نستحضر اللحظة اللطيفة في مجال الضمان وأن نستحضر اللحظة اللطيفة في العقود سواء كانت سلماً أو استصناعاً أو غير ذلك وأن نستصحب اللحظة اللطيفة في باب الرهن. أبواب كثيرة جداً يمكن لهذه النظرية أن تفعل فيها وأن نستفيد من فكر أولئك الأكابر ونجد أن الأمور سارت سيراً منطقياً، سارت سيراً. مناسباً محققاً للمصالح ولكل الأطراف وليس لطرف واحد، وهذا هو الذي لاحظناه من تفكير
الفقهاء المسلمين عبر القرون. من مبادئنا أن نحيي النظريات الفقهية المنسية التي لم تلق الرواج أو نفس الرواج الذي لاقته نظريات أخرى استفاد منها العالم من الفقه الإسلامي، أو على الأقل وافقه فيها أو فكر بنفس. وبطريقته إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.