وقال الإمام | أ.د علي جمعة | الحلقة 11 | ترتيب نظريات الأصول

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مبادئنا أن نغوص في عقول الأولين من العلماء المتقين والمفكرين المسلمين في رحلة نحاول فيها استكشاف كيف يفكرون. إنهم كتبوا نتاج فكرهم كنتائج توصلوا إليها، لكننا نطمع في أن نعلم كيف توصلوا إليها. الطريق الذي سلكوه كيف فكروا كيف فكر الأصولي وكيف فكر الفقيه كيف
فكر المحدث وكيف فكر المفسر بالإضافة إلى المعلومات الأساسية التي كان يتصور بها الكون وللإجابة عن السؤال الأول نظر كثير من الناس في الفقه الإسلامي وحاولوا أن يستخرجوا منه النظريات الضابطة وكان المحدثون من أمثال الشيخ محمد أبو زهرة والأستاذ مصطفى الزرقا قد ساهما كثيرا في التأمل في الفقه ونرى في كتبهما هذا المعنى، نظرية العقد، نظرية الالتزام، نظرية التعسف في استعمال الحق، نظرية الضرورة وهكذا
علما مدرسة كبيرة من الفقهاء المعاصرين للبحث والتنقيب عن النظريات التي جاء بها الفقهاء المسلمون وهي كثيرة وفي كثير من الأحيان تتشابه مع الفكر العالمي وهذا هو الذي شعر به القانوني العظيم عبد الرزاق السنهوري عندما أراد للتشريع المصري أن يجد موطئ قدم في العالم مع التشريعات الأخرى فأخذ يطالع أكثر من ستة عشر تشريعا وفي هذه التشريعات أخذ من التشريع الهندي والبلجيكي والفرنسي والأمريكي والإنجليزي
وغير ذلك من التشريعات سواء اعتمدت القانون أو على السوابق القضائية أو غير ذلك، وإنما الجميع يتوخى العدل، فكيف نصل إلى العدل من خلال تفكيرنا الفقهي ومبادئنا الإسلامية؟ فنجد بذلك أننا استطعنا أن نضع أقدامنا على خريطة العالم الفكري. هذا كان مبتغاه، وأيده في ذلك الاتجاه الشيخ محمود شلتوت عندما قدم بحثه عن المسؤولية وأتى بالجديد. الذي لا يعرفه العالم في نظرة الفقه الإسلامي لهذا الموضوع قدمه إلى مؤتمر لاهاي وحينئذ اعتمدوا الفقه الإسلامي مصدرا من مصادر القانون الدولي،
هذه الجهود التي تمت كانت فيها محاولة لما نريد أن نقوله من رحلة في ذهن العالم المسلم، فإذا ما تصورنا ذلك في علم الأصول فإننا سنجد أنفسنا أمام الرحلة التالية كيف فكر الأصوليون حتى يأتوا لنا بكتاب الرسالة من تحرير الشافعي ونفس الكلام بصياغة مختلفة عند الغزالي ثم عند الرازي ثم عند الإسنوي ثم عند وهكذا على مر التاريخ وإلى يومنا هذا كيف فكروا لماذا أثاروا هذه الموضوعات في هذا العلم فإذا
غصت في علم الأصول وحاولت أن يجمع أطرافه ومسائله وهو يتحدث عن الكتاب الأول في الكتاب والكتاب الثاني في السنة والثالث في الإجماع والرابع في القياس والخامس في التعارض والترجيح وهكذا إلى أن ينتهي بكتاب الاجتهاد. إذا تأملنا هذا وحاولنا أن نتتبع هذه الرحلة في ذهن الأصولي نجد وكأنه قد سأل نفسه أسئلة منطقية متتالية. وأراد أن يضع الأدوات التي يستطيع بها أن يجيب على هذه الأسئلة، سأل نفسه أولا: أنا هنا في القرن الثاني أو الثالث الهجري، بيني وبين
رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو مائتي عام أو يزيد، الشافعي توفي سنة مائتين وأربع من الهجرة، فما الحجة؟ أنا لم أتلق الوحي عن والله وأنا أريد أن أعلم ما الذي يرضيه عني وما الذي يغضبه علي وأريد أن أكون في دائرة رضاه ولا أكون في دائرة سخطه فما الحجة التي يمكن أن أعتمد عليها في هذا المجال السؤال الأول ما الحجة وأخذ يبحث فيه فوجد أن المسلمين
حافظوا على الكتاب بكل الوسائل حافظوا عليه كتابة حافظوا عليه في شكل هذه الكتابة حتى سميت هذه الكتابة بالخط العثماني حافظوا على تلاوته حافظوا عليه بصورة يستحيل معها الخطأ وجدنا في النقل قراء عشرة أسانيدهم متواترة ووجدنا أكثر من تسعين قراءة غير معتمدة لأنها لا توافق خط المصحف أو لأنها لا توافق العربية أو لأنها لا توافق الرواية تسعين
بالمائة، ولكن هذه النسبة التسعينية في مواضع معينة، فوجد أمر واضح جلي أن الكتاب نقل بصورة لافتة للنظر وبصورة موثقة علميا، فلما وجد كذلك وهذا الكتاب دال في ذاته على صدقه حيث إنه صيغ بصيغة وكتب بلغة ليست هي لغة البشر المعتادة لا في عصره ولا فيما وكل ما تكلم عنه صدق فيه وكل عبارة فيه فإنها توافق جميع
الأسس المعرفية وإن اختلفت فهو معجز في صياغته ومعجز في أسلوبه ومعجز في ترتيبه ومعجز في عرضه وهو ليس خطيا بمعنى أنه يقول مثلا أنه في السنة الأولى حصل كذا وفي السنة الثانية حصل كذا وفي السنة سيحدث هكذا أبدا، هذا مركب وإن الحياة أمامه مركبة هي الأخرى وليست خطأ لأن الإنسان مع الواقع في تغير وفي جدلية مستمرة، فوافق هذا الكتاب المسطور هذا الكتاب المنظور ووافق هما الاثنان هذا الكتاب المقدور وهو الإنسان، فكروا في أنه
ليس بعد ذلك وقيام البرهان على أن هذا كتاب الله وإقامة البرهان على أنه نقل إلينا بصورة لافتة للنظر موثقة معتمدة أنه حجة، ثم تأملوا فيه فوجدوا قوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، ووجدوا فيه الأمر بطاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدوا فيه الأمر باتباع النبي: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله ويقول لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا فأخذوا من هذا أن السنة حجة فوجدوا أن السنة قد نقلت أيضا بصورة معتمدة موثوق بها لافتة للنظر وأنها هي
تحكي عن نفسها أنها حجة والله إني لا أقول إلا حقا أنا أكتب عنك في الرضا والغضب يا رسول الله قال لا أقول إلا حقا وربنا يؤيده ولا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ما ينطق عن الهوى عبارة تبين أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئا من عند نفسه ولا يخطئ في التبليغ عن ربه ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين إلى آخر ما هنالك من آيات ليس لك من الأمر شيء ما على الرسول إلا البلاغ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء أجابوا عن السؤال الأول ما
الحجة وجعلوا المصدر الكتاب والسنة الصحيحة الكتاب والسنة الحجة فسألوا أنفسهم سؤالا ثانيا كيف وصل إلينا الكتاب والسنة ولذلك تراهم يبحثون عن القراءات المتواترة والقراءات المشهورة والقراءات الشاذة وتراهم يبحثون عن الحديث المرسل وعن مدى حجيته والحديث المرسل في اصطلاح الأولين ما سقط من إسناده راو من أي مكان كان وفي اصطلاح المتأخرين والمرسل منه الصحابي سقط إذا فهو خاص بسقوط الصحابي، ولكن
الأولين من علماء الحديث كانوا يطلقون المرسل على كل ما سقط من سنده ولو في أي مكان فيه. أحد يتكلم علماء الأصول عن التوثيق إذا فهذا هو السؤال الثاني الذي خطر في بال ذلك الأصولي وهو يحاول أن يضع أداة لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، النظرية الأولى نظرية الحجية والنظرية الثانية نظرية التوثيق، فنرى مباحث التوثيق موجودة ومبثوثة في علم أصول الفقه سواء كان الكتاب
والسنة باعتبار البرهان وباعتبار العقيدة وباعتبار الأدلة الحجة وقد اطمأن لنقله، إذن فما علي إلا أن أدرسهما فكيف نقرأ الكتاب والسنة ويمكن أن نجعلها تحت كلمة تحت كلمة واحدة الفهم أريد أن أفهم فتحت الكتاب وجدت أنه باللغة العربية إذا فلا بد من الاهتمام باللغة العربية على مستوى الحرف البناء للكلمة لأن حروف المباني ثمانية وعشرون حرفا كانوا يجمعونها قديما طبقا للأبجديات العبرانية والسريانية وغيرها أبجد
هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ دذغ وهذه الستة الأخيرة تختص بها العربية ولا وجود لها لا في اللاتينية ولا في العبرية ويسمونها بحروف المباني ووجدوا الرسم القرآني رسما قياسيا فريدا لا يقاس عليه يعني رسما هو في ذاته يحافظ على نفسه لكنه لا يقاس عليه وجدوا إبراهيم في سورة البقرة ليس فيها ياء ولا هاء كل القرآن وجدوا أن امرأة ورحمة وشجرة مرة تكتب بالتاء المفتوحة ومرة بالتاء المربوطة، وجدوا أن لا مرة تكتب مفصولة أن لا ومرة تكتب إلا من غير نون، وجدوا عجائب
في هذه الكتابة فحافظوا عليها كما كانت وقالوا إن القرآن معجز في رسمه كما أنه معجز في لفظه. الأصوليون بحثوا عن الحروف فوجدوا أن حروف المباني وهناك حروف للمعاني وهذه حروف المعاني في اللغة العربية نحو ثمانين حرفا لكنها كلها لم تذكر في القرآن والمذكور في القرآن منها نحو ثلاثين حرفا والبقية لا تذكر فبحثوا في الحروف التي تتعلق باستنباط الفقه الواردة في الكتاب فبحثوا نحو أحد عشر حرفا اثني عشرة أحرف نجدهم يبحثون عنها بتعمق في أصول الفقه، ما
علاقة أصول الفقه بحروف المعاني؟ إنهم يريدون أن يفهموا السياق والسباق ودلالات الألفاظ والمجاز والحقيقة والاشتراك وخصائص اللغة الموجودة في أصول الفقه، لماذا؟ لأنهم يريدون أن يفهموا، وعلى ذلك فالنظرية الثالثة كيف نفهم الكتاب والسنة فتحدثوا عن العموم والخصوص والإطلاق وعن الاستثناء وعن المخصصات وعن الخاص عن العام وكيف يكون هذا التخصيص وما أحواله وهكذا، لماذا؟ لأنهم يريدون أن يفهموا وأتوا بأشياء لم يتحدث عنها أهل اللغة،
كان من المفترض أن ينقلوا هذا المجال من اللغة نقلا، لا، وإنما فكر الأصوليون بما يلائم الأدوات التي يتمكنون منها من استنباط الأحكام وفقا لمقولة اللغويين في العموم والخصوص والإطلاق والتقييد، هذا الكلام لا نجده في كتب النحاة ولا في كتب أهل اللغة كذلك. بعد أن أصبحت الرحلة تعمل في ذهن الأصولي، والحجة واضحة من الكتاب والسنة، تأكد من النقل وكيفيته وأنواعه وموقفه منها، ثم تأكد من أدوات الفهم ففهم فوجد أمرا غريبا
يفهموا فهما معينا في مسائل معينة غير قابلة للنقاش، لم يخطر في بالي واحد قط من أهل العرب ولا العجم ولا المجتهدين ولا العوام ولا غيرهم إلا معنى واحد، ولذلك بدأ في النظر في نظرية القطعي والظني قطعي الدلالة الذي لا يختلف عليه اثنان وظني الدلالة الذي يمكن وبطريقة علمية محترمة معتبرة أن نختلف معها فيها لأنها لا تخالف اللغة ولأنها لم يتفق على سواها ولأنها
لا تخالف ولا تضر بمقاصد الشريعة بالبطلان ولأنها لا تضيع مصالح الناس ولأنها تراعي المآلات إذا فاختلافنا يثري واختلاف تنوع يمكن للمسلمين في الأرض وليس من قبيل اختلاف التضاد الذي يهدم بعضه بعضا وينقض بعضه بعضا فجاءوا بقضية الإجماع وجعلوه قطعيا ومنعوا مخالفته منعا باتا حتى لا ندخل في جدال وفي نقاشات لا طائل من ورائها وهذا الإجماع تحقق في هذا الذي ذكرناه الصلوات خمس
الظهر أربع الوضوء قبل الصلاة وليس بعدها لا يأتيني شخص يحاول أن يتعالم ويستعمل الأدوات اللغوية فيخرج بأن الوضوء بعد الصلاة هذا كلام لا يسمعه المسلمون ولا يريدون أن يسمعوه أبدا ولهم الحق كل الحق في هذا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم قمتم فعل ماض إذا فالصلاة تمت والفاء للتعقيب يبقى الغسل بعد الصلاة آه هذا يستعمل الأدوات اللغوية ولكن نسي هذا الرابع الذي يقول
له فيه أنه لا بد من الالتزام بالقطعية وأن اتفاق الأمة وإجماع الأمة لا يجوز مخالفته وهذا الذي يخالف فيه الآن بعض الناس المساكين الذين لم يذهبوا إلى الأكاديميات ويقولون ما الحاجة إلى أن ندرس لأنك سوف تعلم ما لم تكن تعلم وسوف يبنى ذهنك بالتدريج بطريقة تجعله قادرا على العطاء ليس هو أمر مجال كالفنون والآداب والرياضة والسياسة تفكر فيها كيف ما تشاء وتبدع كلما أطلقنا لك العنان وتركناك متفلتا من غير ضوابط، الأمر ليس كذلك، هذا علم والعلم له منهج وله قواعد وهذا
العلم هو الذي يحول الفكر إلى ضوابط وقوالب يمكن نقلها لمن بعدنا وهنا الصراع الحادث الآن الذي ترونه فيمن يريد أن يبيح القبلة أو أن يبيح التدخين في نهار رمضان أو أن يبيح كذا وكذا من هذا، الفكر المشوش وهذا الفكر المشوش نتج من عدم التخصص لأنه لم يبن ذهنه بطريقة يتعلم فيها آدابه بل أراد أن يحول الدين إلى مجال تأتيه الخواطر فيتحدث كيف يشاء ثم يغير رأيه في اليوم التالي ثم يتأثر به أو لا يتأثر به بعضهم، وكلما كلمناه فإن التصنيف جاهز علماء
السلطان وعلماء القرآن وهكذا من الشغب الذي لا نهاية له واستعمال هذا الشغب في هدم العلم وفي هدم المنهج أثناء الرحلة في ذهن الأصولي وبعد أن استقر على الفرق بين الظني وبين القطعي وتكلم عن الإجماع انتقل إلى مسألة خامسة وهي الإلحاق لما أراد أن يستنبط لكل فعل بشري حكما من الكتاب والسنة لم يجد وكان بين أمرين إما أن يجعل كل شيء مباحا بدون النظر إلى المصلحة ولا المقاصد ولا المآلات ما دام ليس مذكورا
في الكتاب والسنة بمعنى بسيط أنني أذهب إلى الكتاب وإلى السنة فإن لم أجد هذا النص فهو مباح بغض النظر عن حكمته وعلته وما له ومقصده ومصلحته وأي شيء، هذا طريق والطريق الثاني أن نلحق الشبيه بشبيهه والنظير بنظيره ومن هنا جاءت إليه منظومة ضخمة توسعوا فيها جدا في كل مراحلها وهي آلية القياس فتحدثوا عن القياس باعتباره مصدرا من مصادر الاستنباط وذلك بإلحاق الحكم المسكوت عنه بالمنصوص عليه فعندما يريد رسول الله صلى الله
عليه وسلم منا أن نمتنع عن الخصام والنزاع فيقول لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ولا يبيع على بيع أخيه حتى يدع أو يترك وأجره على منصوص عليه فهل نلحقه به هذا هو القياس بعد ذلك فكروا في التعارض الذي يحدث عندما نقرأ ظواهر النصوص فيحدث في عقل المجتهد تعارض ظاهري يفكر في كيفية حله بأن يجعل لهذا زمنا ولهذا زمانا أو ليجعل هذا ناسخا وهذا منسوخا أو أنه يجمع بينهما بأن هذه حالة وهذه حالة أو شيء من هذا القبيل ووضعوا له القواعد التفصيلية في التعارض والترجيح، وبعد ذلك أيضا
توصل هذا الذهن إلى أن الذي يقوم بكل هذا لا بد له أن يكون واعيا بالمقاصد الشرعية وبالآلات المرعية وبالمصالح الإنسانية، وأن يكون لديه من الأدوات ومن العلم ما يمكنه من أن يكون مجتهدا فوضعوا شروط الاجتهاد نظريات سبعة، إنما هي محاولة لرحلة في عقل الأصول. كيف كتبت الأصول إذا سمعناها وفهمناها خفت علينا دراسة الأصول بترتيبها الحالي وبترتيبها الموروث. شكرا لكم وإلى لقاء.