وقال الإمام | أ.د علي جمعة | الحلقة 12 | ترتيب مقاصد الشريعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مبادئنا أن نربط بين ما توصل إليه المسلمون وبين ما نواجه به العالم في يومنا الذي نحيا فيه، إننا على عقيدة ويقين أن للمسلمين حضارة تفيد الإنسانية وتوجهها إلى ما فيه الخير والمنفعة. والمصلحة والتمكين والعمران، ولذلك فهذه العقيدة التي في قلوبنا تحتم علينا أن نتأمل في كلام المسلمين في مفكريهم في علمائهم
في فقهائهم وأصولييهم ومفسريهم، وأن نستخرج منها وأن نضيف إليها وأن نقوم بتطويرها وبتنقيتها وبإعادة صياغتها وإنتاجها وبعرضها على العالمين. هذا مبدأ من مبادئنا يتمثل في لقائنا اليوم في قضية وهي قضية المقاصد الشرعية، المقاصد الشرعية ذكرها الأصوليون وهم يتحدثون عن المناسب في كتاب القياس من أصول الفقه. هناك أصل وهذا
الأصل وارد في الشريعة بنص في الكتاب أو السنة وله حكم، وبالبحث والسؤال والتدبر والتفكر في لماذا أعطي هذا الأصل هذا الحكم، استطاع العلماء أن يصلوا إلى العلة والسبب. الذي من أجله أعطي هذا الأصل ذلك الحكم، هذه العلة قد تكون منصوصة أيضا في الكتاب والسنة، وقد لا تكون منصوصة وإنما تكون مستنبطة فهمها العلماء من مجمل الشريعة ومن التأمل والتدبر في ذلك النص من
مجمل الشريعة في صورة ما أسموه بعد ذلك بالمقاصد، وبالتدبر والتأمل في النص نفسه. حتى يصلوا إلى أن هذه العلة إنما هي التي سببت أن الله سبحانه وتعالى شرع ذلك الحكم لهذا الأصل فلو تأملنا مثلا في أصل من الأصول أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يبيع أحدنا على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته حتى يدع فإننا نصل من أن ذلك حرام وعلة ذلك تعني الإجابة على السؤال لماذا كان البيع على البيع والخطبة على الخطبة ممنوعين وكانا
حرامين نصل إلى إجابة بأن ذلك من باب رفع النزاع والخصام بين الناس وهذه تكون علة لو توفرت في صورة لم ينص عليها مثل الإيجار على الإيجار رأيت أحدهم يستأجر شقة فذهبت من أجل أن أخطف منه هذه الشقة إن صح التعبير وأدفع أكثر أو أستعمل نفوذي أو قرابتي للمؤجر أو أي سبب آخر، ولكن في النهاية أغريت قلب أخي في الله الذي سبقني إلى هذا البيع أو هذه الخطبة أو هذا التأجير. إذن فهناك ما يسمى بالأصل وهناك
ما يسمى بالعلة. وهناك ما يسمى بحكم ذلك الأصل والعلة الناتجة من أنني أسأل لماذا شرع الله هذا الخمر حكمها الحرمة فأسأل نفسي ولماذا حرم الله سبحانه وتعالى الخمر هذا سؤال أول السؤال الأول لماذا أجيب عليه بأنها مسكرة فأسأل نفسي سؤالا ثانيا ولماذا حرم الله المسكر فالإجابة لأنه يذهب العقل فأسأل نفسي ولما جعل الله ذهاب العقل محرما، ما الذي يعني أن يتم ويجري
إذا غاب عقلي؟ أنا أنام فيغيب عقلي، وكذلك في بعض الأحيان أتناول المخدر من أجل عملية جراحية فيغيب عقلي، قد يعرض لي الإغماء فيغيب عقلي، فلماذا حرم الله سبحانه وتعالى ما يحدث في طبيعة الخلق الذي خلقها وتعالى كالنوم والإغماء أو إباحة كتناول البنج من أجل إجراء العملية فلم لا يأتي في وقت ولو كان بعد العشاء فأتناول الخمر وأسكر ويذهب عقلي فتأتي الإجابة بأن الله سبحانه وتعالى كلفنا وجعل العقل مناط التكليف ومن أجل ذلك منع أن نغيب
من غير ضرورة هذا العقل أما في حالة العملية الجراحية فهذا اضطرار وأما الطبيعة التي تجعل هناك إغماء أو تجعل هناك نوما فهذا ليس بيده بل هو مرده إلى الاحتياج الذي خلق الله الإنسان عليه وهو أنه محتاج إلى النوم وأنه ضعيف قد يتعرض للإغماء ولأجل ذلك فليس له دخل في هذا ولكن الله حرم عليه أن يكون لماذا دخل من غير اضطرار فاذهب ما بني عليه التكليف ولما كلفني الله سبحانه وتعالى كل هذه أسئلة قال كلفني الله سبحانه وتعالى من أجل أن أعبد الله وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ومن أجل أن أعمر الأرض ومن أجل أن أزكي النفس قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها وتوصلنا إلى العقيدة من الأسئلة المتتابعة فالأسئلة المتتابعة كانت منهجا توصلوا به إلى المقاصد لو أخذنا كل آية لو أخذنا كل حكم وبحثنا فيه لوجدنا أن هناك أمرا مناسبا لتشريع الحكم فوجدنا ونحن نسأل هذه الأسئلة المتتابعة في كل حكم عندما حرم الله السرقة، عندما حرم الله القتل، عندما حرم الله شرب الخمر، عندما حرم الله الزنا، عندما حرم الله الربا، عندما حرم الله كذا
وكذا في كل شيء من المحرمات أو من الواجبات، عندما أوجب الله الصلاة، عندما أوجب الله الزكاة وهكذا نجد إجابة على هذه الأسئلة المتتالية لماذا؟ بالاستقراء الاستقراء يعني بالتتبع بعد أن انتهينا من الإجابة على الفروع الفقهية التي وردت أحكامها في الكتاب وفي السنة بل والتي وردت أيضا حتى عن طريق القياس بإلحاق الشبيه بشبيهه والنظير بنظيره بعد ما فعلنا هذا وجدنا أنفسنا أمام ما أسماه العلماء بمقاصد الشرع من التشريع يعني لما شرع الله هذه الشرائع فوجدنا
أنفسنا أمام خمسة مقاصد بالاستقراء، هذه الخمسة هي الحفاظ على النفس والحفاظ على العقل والحفاظ على الدين والحفاظ على العرض، وفي بعض الأحيان يعبرون عنه بالنسل وأنا أعبر عنه باللغة الحديثة التي توافق الأدبيات الحديثة بكرامة الإنسان، لأن العرض لم يكن إلا مفهوم الكرامة الإنسان في اصطلاحهم وتعريفهم، وخامسا الحفاظ على الملك، وبعضهم يقول الحفاظ على المال
هي لأن المال علاقة الإنسان معه هي علاقة الملكية. إذن خمسة أمور هي مقاصد عليا للشريعة، رأينا الشاطبي ومن قبله وكثيرا ممن بعده يرتب هذه الخمسة على نحو الدين فالنفس فالعقل فالعرض فالمال أو الملك. فقدم الدين وقال إن هناك جهادا في سبيل الله وبذلك أمرنا أن نقدم الدين على النفس
ومن أجل هذا الفهم قدم الدين على النفس بعض العلماء المعاصرين من أساتذتنا يعني يريد الإجماع على هذا الترتيب ونحن نؤكد أنه ليس هناك أي إجماع على هذا الترتيب فإن الزركشي مثلا قد رتب هذه المقاصد الخمسة لها ترتيب آخر، ورتبها غير الزركشي ترتيبا ثالثا ورابعا وهكذا، وليس هناك أي نوع من الإجماع، إلا أن هناك شيوعا موجودا في الكتب على هذا الترتيب لوجهة نظر ذكرها الإمام الشاطبي في الموافقات، وهو أن الجهاد يجعل الدين مقدما على
النفس، والإجابة على ذلك أننا لم نؤمر بقتل أنفسنا حتى يقال ذلك فإننا ونحن نخرج إلى الجهاد نصد العدوان ونرفع الطغيان ليس المقصد أن نموت والنبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون كما أخرجه البخاري أي هجم عليهم في حين غفلتهم من أجل حقن الدماء من أجل ألا يموت أحد وإنما نريد أن نكسر شوكة هذا العدو الذي يهددنا أو الذي يأخذ من أراضينا أو الذي يقطع الطريق على الناس دون أي خسائر بطريقة سلمية وليست بطريقة دموية، فإن
القتل ليس هو الحتم والمطلوب أي لم يأمرني ربي كما أمر الأمم السابقة اقتلوا أنفسكم، لكن أمرني ربي بالقتال وأنا أتمنى إحدى الحسنيين. النصر أو الشهادة إذا أمكنني أن أنتصر وأعود دون قتل صحيح أن غالبا في الحروب يقع قتل ولكنني لا أتمنى أن أقتل بهذه الطريقة لأنني لو انتصرت لكان ذلك أولى من أن أقتل إذ لم يأمرني ربي بأن أقتل نفسي من أجل ديني بل أمرني أن
أجاهد في سبيله حتى لو تعرضت للقتل وهناك فرق بين الأمر بالقتل والأمر بفعل شيء أتعرض فيه للقتل أنا أرى أن نبدأ ترتيبا منطقيا إذا كان الإنسان هو محل رعاية الشريعة التي أتت بتلك المقاصد فإن أول شيء يجب علينا أن نحافظ عليه فيه هو نفسه بعد ذلك سأحافظ على عقله حتى يفهمني حتى يتلقى الأوامر الإلهية من الوحي بافعل ولا تفعل وحتى يكون متمكنا من تطبيق ما أمر به من رضا الله والبعد عن
سخطه ولذلك نبدأ بالنفس ونثني بالعقل لأن ضياع النفس لا يبقى معه دين ولا دنيا، ضياع النفس معناه الخروج من ساحة الكون فلا بد أن نبدأ في المقاصد بالنفس، ثم هذه النفس تحافظ على العقل القائم فيها حتى يكون ذلك العقل مناطا للتكليف، ويأتي بعد ذلك الدين والحفاظ على الدين، حينئذ معناه منع الكفر بالله، منع معاكسة مراد الله في كونه، وبذلك فإن الدين حينئذ سيكون
كل دين والحفاظ على كل دين، ولذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نتعايش في مجتمع واحد مع أهل الكتاب وقال لهم ما لنا وعليهم ما علينا ومن آذى ذميا فقد آذاني تخيل أن مسلما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بهذا النهي وقليل الكلام يغني عن كثيره وثالثا ورابعا تأتي كرامة الإنسان والتي نعبر عنها بهذا التعبير حتى تشمل حرمة تعذيب الجسد سواء كان هذا على سبيل العدوان من الحكومة التي تعتقل
معتقلين وتعذب أجسادهم، مخالفة بذلك للقوانين الإقليمية والعالمية، مخالفة بذلك لحقوق الإنسان، مخالفة بذلك لمبادئ العدالة الأساسية، مخالفة بذلك للإنسانية في حد ذاتها، ومخالفة بذلك للشريعة، فكرامة الإنسان مصونة على مستوى هذا التعذيب أو سواء كان التعذيب تعذيبا جسديا للنفس على سبيل الأمراض النفسية التي تتوهم أن هذا التعذيب سوف يحرر الروح من الجسد أو شيء من هذا القبيل، أو سواء كانت كرامة الإنسان منتهكة في حرية تعبيره أو في حرية أدائه أو في حرية عمله أو في حرية تنقله أو في حرية حتى اعتقاده وهكذا ولذلك فكرامة الإنسان كلمة تشمل العرض
وتشمل النسل وتشمل فوق ذلك معنى جليلا قد أكدته الشريعة في نصوصها. خامسا يأتي المال أو الملك والملك قد يكون أيضا في مفهومه عندي أوسع من المال واحترام الملك الذي يشمل الملكية الفكرية والذي يشمل الخصوصية الإنسانية والأسرية والذي يشمل الحرية السياسة والأداء السياسي من حزب إلى حزب أو من رأي إلى رأي، كل هذه الأمور قد تكون في مفهوم المال تتجاوز المال، خاصة المستجدات مثل قضية الحقوق الملكية الفكرية.
خمسة من المقاصد في هذا الترتيب تكون هي النظام العام في البلاد والعباد، بمعنى أن هذه المقاصد الخمسة بهذا الترتيب وبهذا المفهوم الذي أضفناه نحن فعلنا أمرين، الأمر الأول غيرنا الترتيب الذي هو شائع وتغيير الترتيب نراه جائزا لأنه ليس هناك اتفاق ولا إجماع، والأمر الثاني أن بهذا الترتيب وسعنا مفهوم العرض إلى كرامة الإنسان ووسعنا مفهوم الدين للمحافظة على الدين في ذاته وأصبحت هذه المقاصد الخمسة تمثل الإسلام
الدين هنا ليس الإسلام فقط وإنما هو أوسع من ذلك ليشمل كل دين، والثاني هو أن الإسلام يوافق النظام العام والآداب. النظام العام والآداب في الحقيقة لم يختلف عليه أحد، فالحفاظ على النفس موجود في كل القوانين وفي كل العالم، يوافق عليه المسلم وغير المسلم داخل المجتمع المسلم وخارجه المجتمع غير المسلم يحفظ النفس، ولذلك يرضى بأن يكون الإسلام دينا للدولة لأن الإسلام الذي هو دين للدولة له حضارة وله نظام عام هو
ذات النظام العام الذي يوافق عليه جميع البشر. حفظ العقل على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة من وجوب التعليم ووجوب المشاركة ووجوب بناء الحضارة العقل عقل الفرد الذي هو في صورة بسيطة كحرمة الخمر والمخدرات والعدوان على ذات المخ والعقل، وأيضا العقل الذي هو بمعنى التعليم، ولذلك لا بارك الله لي في يوم لم أزدد فيه علما، وفوق كل ذي علم عليم، واتقوا الله ويعلمكم الله، وقل رب زدني علما إلى آخر الدعوة إلى اقرأ باسم ربك الذي خلق، حفظ العقل وكذلك الدين وكرامة
الإنسان والملك إلى الآن في العالم كله لم يحدث أن نظاما استباح من ناحية كونه نظاما، لم يحدث أبدا أن نظاما استباح من ناحية كونه هو نظام أي شيء من هذه الخمسة، وما زالت هذه الخمسة تمثل فعلا النظام العام. لجميع التشريعات التي في العالم تأتينا صور غريبة عجيبة وانحرافات جدلية تبيح المخدرات، لكنها في الواقع تبيح المخدرات كما في هولندا وغيرها، إباحة ليست إباحة فعل وإنما إباحة يجربون فيها
أن يكون ذلك إباحة منع بمعنى أنهم يزعمون أن الشيء إذا ما توفر ولم يوجد هناك مروج له وكان بإمكان الشباب أن يذهبوا فيأخذوا المخدرات التي اتفق على أنها من البلاء وأنها تضيع العقل وأنها تضيع النفس وأنها تضيع الحياة وأنها تسبب الانتحار في النهاية والإدمان الذي يحطم الإنسان، كل هذا متفق عليه لكنهم يبيعونها انطلاقا من نظرية أن ذلك يقلل من انتشارها لأن كل ممنوع مرغوب، ولذلك شيء من هذا القبيل فلسفة وراء الأمر، لكن ما زال الأمر محظورا عند الجميع. كذلك ما يقال هنا يقال في
دعاوى الإجهاض ودعاوى الشذوذ الجنسي ودعاوى المساواة المطلقة وهكذا. كلام فيه ما ينقضه وفيه ما يرد عليه بالبطلان. هذه هي وجهة نظرنا الجديدة في المقاصد الشرعية العليا من ناحية. ترتيبها ومن ناحية مفهومها ومن ناحية تفعيلها باعتبارها النظام العام ومن ناحية أخرى يطول الكلام فيها الفرق بين دين الإسلام وحضارة الإسلام فإن حضارة الإسلام قد قبلت من غير المسلمين وهم على أديانهم ودخلوا فيها ورضوا أن يكونوا مع المسلمين في حضارتهم وكل ذلك يخدمه ترتيب
المقاصد مع توسيع مفاهيمها وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته