وقال الإمام | أ.د علي جمعة | الحلقة 21 | النموذج المعرفى

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في لقائنا اليوم نتحدث عن مبدأ من المبادئ المهمة التي نسير عليها، نتحدث عن رؤيتنا للنموذج المعرفي. ونقصد بالنموذج المعرفي الرؤية الكلية للإنسان والكون والحياة وما قبل ذلك وما بعد ذلك. نقصد بالنموذج المعرفي ما يسمى بالإنجليزية نموذجا معرفيا، هذا النموذج المعرفي الذي يحكم كما يقول كون في الثورات العلمية المختلفة التي نقلت البشر نقلة نوعية
في مسيرتها وتطورها. نستطيع أن نفهم النموذج المعرفي فهما جيدا عندما نقارن بين وجهة النظر الإسلامية وبين تلك التي بنيت عليها الحضارة الغربية والتي يدعي كثير من الفلاسفة وغيره في نهاية التاريخ أنها قد انتصرت وأنها قضت على الحضارات الأخرى واستطاعت أن تنتشر في واقع الناس بملابسهم أو بطريقة أكلهم أو شربهم أو تفكيرهم أو إدارتهم أو علومهم الإنسانية والاجتماعية نقلة غير ذلك مما هو واقع في جامعاتنا وفي حياتنا اليومية وأن هذه الحضارة استطاعت أن تخترع للإنسان المواصلات والاتصالات
والتقنيات الحديثة بحيث إنها سيطرت على البرنامج اليومي للإنسان، وعلى ذلك فقد انتهينا من المقارنات وانتهينا إلى أن هذه الحضارة قد ضربت الحضارات جميعا في مقتل وأنها هي الباقية وأن التاريخ قد انتهى بانتصار هذه الحضارة الوحيدة التي أصبحت هي الحضارة الوحيدة في عالم اليوم، هكذا يرى هذا الفيلسوف أو المفكر في شأن العالم وما يحدث فيه، فما النموذج المعرفي الذي بنيت عليه تلك الحضارة التي أدعي أنها نهاية التاريخ وأنها هي الحضارة الوحيدة؟ هناك في الغرب نشأت فكرة
الموسوعات في أواخر القرن الثامن عشر، وبعد سنة ألف وسبعمائة وستين ظهرت الموسوعة البريطانية التي تسمى بريتانيكا في ثلاثة مجلدات كبيرة واعتبروا أن هذا هو العلم والعلم التجريبي الذي سمي بالإنجليزية علما وأن ما سواه إنما يكون انطباعات أو رؤى أو أفكار لا علاقة لها بالعلم التجريبي الحسي ولذلك كل ما كان خارجا عن هذا الكم من المعرفة فإنه لا يكون موثوقا به ويحتاج إلى تجريب فإن ثبت دخل وإلا فلا وتطورت البريطانيكا حتى أصبحت مؤسسة كبيرة ضخمة
تدار من أمريكا ونشأت موسوعات عالمية أخرى كالموسوعة الإيطالية والموسوعة الروسية في مجلدات كبيرة تصل إلى ستين مجلدا وأكثر ولكن ظلت البريطانيكا لها رونقها القديم ومؤسسة بريطانيكا أصدرت مجموعة من الكتب أسمتها الكتب العظيمة التي كان لها أكبر الأثر في بناء الحضارة الغربية الحالية وهذه المجموعة والتي تسمى في الإنجليزية بالكتب العظيمة منشورة في أكثر من خمسة وخمسين مجلدا، المجلد الأول والثاني من هذه المجلدات إنما يتحدثان عن المفاهيم ويعالجان أكثر من مائة
مفهوم منها مفهوم الإنسان، مفهوم الغيب، مفهوم العلم، مفهوم الثقافة، الحضارة والفكر إلى آخره، يعالجانها في مجلدان كبيران للمفاهيم وبقية الأجزاء تشتمل على النصوص الأصلية للمفكرين العظام الذين أثروا ابتداء من أرسطوطاليس مع اليونان وانتهاء ببرتراند راسل أو جان بول سارتر ومرورا بعصر التنوير وما قبله وقبل ذلك في العصور الوسطى توماس الأكويني أو توماس أكوينوس وكذلك جان
جاك روسو أو فولتير إلى آخر ما هنالك فلاسفة وأدباء وعلماء أثروا تأثيرا واضحا في الحضارة، فمنهم أينشتاين ومنهم داروين ومنهم نيوتن عبر التاريخ الطويل. أربعمائة وخمسون كتابا هي خلاصة الفكر الأوروبي لخصوها في مائة واثنين من المفاهيم، نشروا كل هذا وهو بين أيدي الناس ويطورونه كل سنة بإضافة الجديد الذي يعتبر مؤثرا في الحضارة الغربية فما النموذج المعرفي الإسلامي الذي نخاطبهم به إزاء هذا النموذج المركب المعقد
الذي جاء عبر التاريخ وتغير لديهم كما يقول كوين إن النموذج المعرفي يتغير فيتغير معه حال العلم، علم الميكانيكا عند نيوتن يختلف عن علم الرياضيات عند فيثاغورس أو عند إقليدس أو عند أرشميدس ثم بعد ذلك ننتقل إلى نوعية أخرى عند أينشتاين وتلاميذه وزملائه، هذا النموذج المعرفي ماذا يرى في الإسلام؟ إننا نأخذ ما في العقيدة الإسلامية المستنبط من الكتاب والسنة، إننا نأخذ من كلام علمائنا الأفاضل
الذين سهروا على الكتاب والسنة يستنبطون منها المفاهيم والأحكام، ووضحوا لنا هذا في كتبهم في علم الكلام، في علم العقيدة في علم التوحيد بل وفي علم الفقه وفي علم التصوف وفي الأخلاق والقيم، كل ذلك وضحوا لنا الإجابة على مجموعة كبيرة من الأسئلة، منها الأسئلة الكبرى الثلاثة التي يسميها الغرب بالأسئلة النهائية: من أين نحن وماذا نفعل الآن وماذا سيكون غدا، السؤال عن الماضي والحاضر والمستقبل، والإجابة جاهزة عندنا أننا قد خلقنا لخالق كريم وإنه هو الرزاق المحيي المميت وإنه لم يتركنا عبثا بل أرسل الرسل وأوحى بالوحي وإنه كلفنا ونظرية التكليف تجعلنا نلتزم بالأوامر
وننتهي عن النواهي فبين الأمر والزجر يعيش المؤمن عندما يتوثق من أن هذا أمر وأن هذا نهي أو زجر ثم بعد ذلك غدا نعود إلى ربنا في يوم للحساب الجنة أو النار أو الثواب والعقاب وأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، رؤية واضحة للإجابة على هذه الأسئلة الفلسفية العظمى التي أجيب عنها في الحضارة الغربية بأنه قد نحى مسألة الإله وجعلها من مجال الإيمان إلى مجال العلم، ولذلك فليؤمن به من آمن به من كفر فهذه حرية شخصية لا يسأل عنها الإنسان وليفعل ما يشاء في هذا المجال، إلا أننا يمكن أن نسأل
أسئلة أخرى وهي كيف نشأ هذا الكون ووضعت النظريات ونقضت هذه النظريات في جدال لا نهاية له وفي تخبط ما بعده تخبط، فهناك نظرية الانفجار الكبير وهي أن العالم كان نقطة ثم انفجر فكانت هذه المادة الأولى التي تشكلت بدوران عشوائي وهو يدور حتى الآن، قال تعالى "ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا" فإذا كان ربنا لم يشهدهم خلق السماوات ولا خلق الأرض ولم يدلهم على ذلك، فجاءت مجموعة من العلوم كعلم
هذه تبحث في طبقات الأرض وهذه تبحث في الإنسان وفي ثقافاته واجتماعه وتفرقه وانتقالاته وهجرته حتى تصل إلى إجابة بعض الأسئلة ويأتي داروين فيتأمل الإنسان ويراه أنه على قمة تطور بدأ من السمكة فالطائر فالحيوان فالقرد فالقردة العليا فالإنسان ولكنه لم يجب على كل الأسئلة واختلط عليه وحدة الخلق التي تدل على وحدة الخالق وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد اختلط عليه ذلك لما رأى أن هناك خالقا واحدا وراء الجميع بقضية التطور التي ألفها والتي انتقدت كثيرا حتى لزم الأمر أن يأتي كثير
من العلماء بالداروينية الحديثة إذا فالنموذج المعرفي عند المسلمين يتمثل في أن الإنسان لخالقه أن الإنسان مكلف في حياته الدنيا، وأن الإنسان سيعود في يوم آخر للحساب والثواب والعقاب، وهذا الإيمان باليوم الآخر يتحكم في سلوك الإنسان ويتحكم في أفعاله ويتحكم في اتخاذ قراراته، ولذلك فهو في غاية الأهمية. لماذا يحجم الإنسان عن الزنا أو عن السرقة أو عن القتل؟ إنه يخاف الله. ويأتمر بأمره، ليست المسألة مسألة أخلاقية فحسب، وليست المسألة مسألة فيها تفضيل لذلك الإنسان الذي امتنع عن الزنا
والفحشاء والفاحشة والسرقة، بل المسألة هي مسألة الإيمان باليوم الآخر الذي ربط فيه الله سبحانه وتعالى الخير بالثواب والشر بالعقاب، رؤية أخرى غير الرؤية التي نحتت الإله من ناحية ونحن اليوم من ناحية أخرى والسؤال فكيف ننظر إلى الإنسان له عقل يستطيع أن يفكر ولذلك فبهذا العقل ينشئ الأحكام ونحن عندنا العقل يفسر الأحكام ويطبق الأحكام ويفهم الأحكام لكن الذي ينشئ الحكم هو الله فالله هو الحاكم لا إله إلا هو يترتب على ذلك القول بمجلس ينتخب وأنه هو الذي ينشئ الأحكام وعلى ذلك
فقد أباح ما حرم الله من إجهاض ومن شذوذ ومن أمور لا تليق بالبشرية ولا بالمجتمع البشري أن تكون حتى عند العقلاء وما زال العقلاء في أغلب بقاع الدنيا يأبون هذا ويرفضونه ظهر هذا عندما ظهرت وثيقة الأمم المتحدة لمؤتمر السكان في القاهرة ولمؤتمر بكين وبكين بلاس عشرة أو بلاس خمسة بعد ذلك فقد اجتمع أكثر من ثلاثين من أتباع الأديان على وجه الأرض منهم الشنتو والهندوس والبوذية والجينية والمسلمين واليهود والنصارى وكل أنواع الديانات الكبرى على وجه الأرض في بلجيكا واتفقوا على رفض هذه الوثيقة لما تشتمل عليه من حرية جنسية أو من أو من إجهاض أو من غير ذلك من بلاياها، لكن
هذا هو النيو إيج أو العصر الجديد أو الفكر الجديد. نموذجنا المعرفي إذن يشتمل على أن الإنسان مخلوق للخالق وأنه مكلف وأن هناك يوما آخر سنعود فيه إلى ربنا ويجيب ذلك على الأسئلة الثلاثة الكبرى. كذلك نموذجنا المعرفي يرى إن الإنسان سيد في الكون وليس سيدا للكون، فإن السيد هو الله، أما الإنسان فهو مكرم "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا". أسجد الله الملائكة لآدم لعلو شأنه ولعلمه، وسورة البقرة وهي تتحدث عن قصة الخلق تؤكد ذلك المعنى. الذي
يفيدنا في بناء نموذجنا المعرفي، الإنسان سيد في الكون، هذا الكون مسخر له، سخر الله لنا السماوات وسخر لنا الأرض. من النموذج المعرفي أن هذا الكون يسبح ويعبد ربه وأنه يمتثل للإرادة الإلهية، فنراه وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، هذا الكون المسبح إذا ما عبدنا ربنا سبحانه وتعالى نحن نسير في طائرة وإذا ما عاندنا وتركنا عبادة الله التي هي هدف ومراد الدنيا سرنا في غير اتجاه هذا الكون وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون نحن نؤمن
بالعبادة والعمارة والتزكية فربنا سبحانه وتعالى أمرنا بالعبادة وأمرنا أيضا بعمارة الأرض هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها وأمرنا بالتزكية قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها، ربنا سبحانه وتعالى نهانا عن التدمير وأمرنا بالتعمير، ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. ويقول يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ربنا سبحانه وتعالى يبين لنا في الكتاب وفي السنة المشرفة على لسان نبيه يبين
لنا نموذجنا المعرفي الذي يقول إننا نقدس شيئا من عالم الأشياء وعالم الأشخاص وشيئا من الزمان ومن المكان، نحن نقدس الكعبة ونقدس المصحف ونحترم النبي صلى الله عليه وسلم احتراما بليغا، نحن نعتز بتتبع ليلة القدر، نحن نعلم أن الكعبة هي محل نظر الله سبحانه وتعالى وأن المتعلق بالملتزم يلتزم فيه استجابة الدعاء، يا عمر هاهنا تسكب العبرات. نؤمن بذلك لا يستطيع أحدنا أن يلقي بالمصحف أو أن يناوله أخاه من على بعد، بل كلما أمسكنا بالمصحف وضعناه فوق كل كتاب ووضعناه فوق
رؤوسنا أو قبلناه. إنه التقديس الذي تنكره حضارة أخرى، ينكرون التقديس مطلقا حتى أنهم ينكرون تقبيل يد الأب أو الأم أو العالم أو الكبير أو كبير القبيلة مثلا إذا فنحن أمام نموذج معرفي مختلف يؤمن بالاحترام، وهناك نموذج آخر يؤمن بالتساوي المطلق حتى بين الإنسان وبين الكائنات، ولذلك فإن من نموذجنا المعرفي أن الإنسان ليس جزءا من الكون ولكن هناك يرى أنه جزء من الكون ولذلك يخضع للطب التجريبي ولا يرى كثيرا إلا إذا ثبت ذلك
بالتجريب أيضا في المسائل الروحية والنفسية، حتى إن التخصص المفرط الذي عاش فيه كثير من الأطباء تعاملوا به مع الإنسان كقطعة لحم بيولوجية وليس كإنسان مكرم مخلوق له روح. قديما كان الطبيب يشم عرق الإنسان ويسأله عن مشكلاته بينه وبين أبنائه وبينه وبين زوجته، عن مشكلاته المالية وهكذا إلى يصف له العلاج المناسب أما الآن فإن الأمر محصور في التحاليل والأشعة وشيء من التعامل شبه المادي مع هذا الجسد الذي أمامنا مما دعا كثيرا من الناس إلى الدعوة للطب البديل الذي نشأ في أكثر من عشرين
نوعا من أنواع الطب البديل وذلك لأن علم الأدوية ولأن هذا النظام الطبي الذي يعامل الإنسان كمادة وككمية لم يعد ينجح في كثير من الأحيان، إذ إن النموذج المعرفي يؤثر في حياة الناس سلبا أو إيجابا. لو تتبعنا وأخذنا نتتبع مفردات هذا النموذج المعرفي لطال بنا المقام. النموذج المعرفي يشتمل أيضا على مجموعة من السنن الإلهية التي علمنا الله سبحانه وتعالى إياها في إن هذا الكون قد حكم بالتوازن وأن الأصل في العلاقة بين الإنسان والكون وبين الإنسان ونفسه وبين الإنسان وأخيه إنما هو التكامل
وليس الصراع وأن العلاقة بين الرجل والمرأة كذلك هي التكامل سنن إلهية أكثر من خمسين سنة إلهية في القرآن الكريم منها التوازن ومنها التكامل ومنها التدافع ومنها الاختلاف إلى غير ذلك من سنن ربانية خلقها الله سبحانه وتعالى وهي الحاكمة في حياة الناس وفي مسيرتها كذلك فإن هناك مبادئ قرآنية ربنا سبحانه وتعالى علمنا إياها لا تزر وازرة وزر أخرى مبدأ قرآني يمنع فكرة توارث الخطيئة التي بنيت عليها أديان أخرى القصاص حياة ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب في القصاص حياة، هذا مبدأ
قرآني يطبق في التربية ويطبق في الجنايات والعقوبات، وجزاء سيئة مثلها، هذه المقابلة والمماثلة مبدأ قرآني في أكثر من ثلاثين موضعا قرآنيا. كذلك علمنا الإسلام من نموذجه المعرفي أن مقاصد الشريعة الغراء هي حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ الدين وحفظ كرامة تسمى بالعرض وحفظ الملك والمال إذا كان هناك مراعاة لمصالح الناس ومصالح العباد، كل هذا يكون النموذج المعرفي الذي نسعى لصياغته مجرد صياغة جديدة لكلام معروف مألوف
نقرؤه جميعا في الكتاب وفي السنة، ولكن قد يكون بألفاظ أخرى وقد يكون بترتيب آخر، ولكن مصدر هذا هو الكتاب والسنة لا يخرج أبدا النموذج المعرفي يفيد في الدعوة إلى الله، يفيد في الخطاب العالمي ونحن نؤمن بعالمية الإسلام، يفيد في المقارنة بينه وبين الآخرين عندما يسأل أحدنا من أنت وما إسلامك وما معنى مسلم. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.