وقال الإمام | أ.د علي جمعة | الحلقة 22 | السنن الالهية

وقال الإمام | أ.د علي جمعة | الحلقة 22 | السنن الالهية - قال الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مبادئنا أننا نؤمن بسنن إلهية خلقها الله سبحانه وتعالى يسير عليها الكون، وهذه السنن الإلهية ثابتة لا تتبدل ولا تتحول، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. السنن الإلهية قد تكون في التاريخ فهناك سنن تاريخية وقد تكون في الأنفس فهناك سنن
نفسية سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة أو على مستوى المجتمع أو على مستوى الأمة أو على مستوى العالم وهناك سنن كونية في الآفاق وهذه السنن قد تكون في الأرض وقد تكون في عالم الحيوان وقد تكون في عالم النبات، قد تكون في السماء، قد تكون في الملك الظاهر وقد تكون في الملكوت الغائب، والله سبحانه وتعالى هو صاحب هذا الغيب، بل يطلق عليه بعض العارفين غيب الغيب لأنه لا يطلع على كنهه سبحانه ملك مقرب ولا نبي مرسل. إذن سنن
تحكم هذا العالم والعالم هو ما سوى الله من ملك أو ملكوت من غيب أو شهادة، السنن الإلهية نراها في كتاب الله المسطور وكتاب الله المنظور وهو القرآن، والقرآن كتاب فريد لا مثيل له في قصره ووجازته، إيجاز في إعجاز في حفظه الذي تكفل الله به فصدق نبيه وأيده، ليس هناك كتاب على وجه الأرض مثل كتاب القرآن يحفظه الكبير والصغير والأطفال والعرب والعجم يحفظه من يفهمه ومن لا يفهمه
شديد التفلت فلا بد من مراجعته لم نر أحدا من الناس يحفظه بلغة أجنبية وقد ترجمت معانيه إلى أكثر من مائة وثلاثين لغة حتى الذي نقله إلى الإنجليزية أو إلى الفرنسية أو إلى اليابانية لا يستطيع أن يحفظه وقد قام هو بترجمة معانيه، لم نر أحدا من البشر ولا واحدا يحفظ القرآن بلغة أخرى. كتاب عجيب في رسمه، عجيب في نظمه، عجيب في انتشاره. أكثر من أربعين مليون إنسان يحفظون الكتاب عن ظهر قلب بلغات مختلفة، منهم التركي ومنهم الملايوي ومنهم الفارسي. ومنهم العربي وجميعهم يحفظون كتاب الله كما
أنزل، فوجئت أنا في زيارة إسطنبول أن مدارس تحفيظ القرآن بها ستة آلاف طفل صغير، وذهبت إلى إحداها واختبرت الأولاد فإذا بهم يحفظون كأنه صورة فوتوغرافية، كتاب الله هو كتاب الله المحفوظ الذي حفظ وصون، وكتب لا بحولنا ولا بقوتنا وإنما بحول الله وقوته وهناك أيضا تؤخذ السنن الكونية الإلهية من كتاب الله المنظور وكتاب الله المنظور هو ذلك العالم الذي نعيش فيه نسير في الأرض وننظر ونعتبر ونتأمل الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار أمرنا أن نتدبر الكتاب المسطور وأمرنا أن نتدبر الكتاب المنظور ولذلك يرى بعضهم أن الإنسان هو كتاب الله أيضا وفيه جمع العالم فهو مقدور لله سبحانه وتعالى فسمي كتاب الله المقدور إذا فالكتب ثلاثة الوحي والوجود والإنسان الذي يصل بينهما إنها دائرة لا نعرف قبلها من دبرها ولا بدايتها من نهايتها اقرأ باسم ربك الذي خلق فتحدث عن الخلق أولا ثم
بعد ذلك يعيد طلب القراءة فيقول اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم أي الوحي فهو وجه الإنسان إلى الخلق حتى يتوصل به إلى صحة الوحي فكتاب الله المنظور وهو الكون لا يعارض بل ويتفق اتفاقا عجيبا مع كتاب الله المسطور وهو القرآن أو الوحي ومرة أخرى نراه يبدأ بالوحي ثم يتحدث عن الوجود الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان فبدأ بتعليم القرآن ثم بتعليم الإنسان البيان بعد أن خلقه في كونه الفسيح كتب
ثلاثة الوحي والوجود والإنسان الذي يصل بينهما بالتدبر والتفكر كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى هذه هي المصادر السنن الإلهية سواء كانت في التاريخ أم كانت في النفس أم كانت في الآفاق سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، السنن الكونية عندما نتتبعها في القرآن الكريم نجد أنها أكثر من خمسين سنة إلهية سواء في التاريخ لأن التاريخ
له نظام وله مسيرة، المتأمل في هذه المسيرة يخرج منها ويستنبط سننا إلهية لا تتخلف، منها هلاك الأمم، ومنها بقاء الأمم، ومنها سنن تتعلق بعمارة الأرض، ومنها سنن تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. فمن سنة الله أنه جعل لكل نبي عدوا، هذه سنة الله، فإذا ما ختمت النبوة لسيدنا محمد فإن العلماء وهم ورثة الأنبياء والدعاة إلى الله الذين امتثلوا لقوله صلى الله عليه وسلم بلغوا عني ولو آية يقومون
مقام النبوة كما ورد في بعض الأحاديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل يعني في التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم فإذا بهؤلاء الدعاة إلى الله أيضا يجعل الله سبحانه وتعالى لهم من المجرمين أعداء إذا كان هذا الداعي إنما هو داعية إلى الله سبحانه وتعالى على بصيرة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يدعون إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن كان على بصيرة من ربه فإن الله سبحانه وتعالى من سننه أن يقيم له عدوا من الإنس ومن طائفة المجرمين كما وصفهم الله سبحانه
وتعالى أن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهليهم انقلبوا فكهين وما أرسل الله سبحانه وتعالى من نبي إلا وجعل له مجرمين وأعداء سنة الله سبحانه وتعالى في التاريخ سنن كثيرة ألف فيها السيد باقر الصدر دروسا في السنن التاريخية وألف فيها أيضا الشيخ محمد الصادق عرجون وألف في السنن الإلهية بحالها الأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان إذا هناك مؤلفات كثيرة راعى كثيرا من هذه السنن في كتابات الدكتور سيف عبد الفتاح وهكذا
في مجموعة كبيرة من المؤلفات التي تتكلم عن السنن الإلهية أشار الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار إلى هذه السنن ودعا إلى أن تفرد بالدراسة وبالعلم ونعلم أن توليد العلوم كان من سمات الحضارة الإسلامية فمثلا مادة علوم القرآن التي ألف فيها الزركشي كتابه الماتع البرهان هي مادة جديدة جمع فيها أشياء قد تكون مبعثرة هنا وهناك في علم التفسير وفي الحديث وفي أصول الفقه وفي اللغة إلا أنه جمعها كلها في مكان واحد حيث ما
تعلقت بالقرآن وبدراسة القرآن جمعها من القراءات ومن رسم القرآن ومن ضبط القرآن جمعها من التاريخ وألف كتابه البرهان في علوم القرآن إلا أن هذا الكتاب لم يعرف ولم ينتشر ولم يدرس فجاء الإمام السيوطي وخطرت له نفس الخاطرة ونفس الفكرة فألف كتابه الإتقان كما تكلم عن نفسه ثم بعد ما أتمه وقع له كتاب البرهان للإمام الزركشي فاستفاد منه وضمن كتابه الإتقان كثيرا مما ورد في كتاب البرهان للزركشي علم جديد حتى أنه لم يستقر في الأكاديميات إلا في القرن العشرين أما قبل ذلك فلم نسمع أن أحدا قد درس
أو درس البرهان أو الإتقان بل كانت مراجع يرجع إليها فدعا رشيد رضا في مجلة المنار إلى أن تصير السنن الإلهية في درس مستقل وفي مادة مستقلة ويلتزم الطلاب بها كعلم جديد يفتح لهم الآفاق وتقوم له علوم مساعدة تساعده على أن يسير في طريقه وتكون نوعا من أنواع توليد العلوم التي توقفت في القرن الرابع ولم تخرج بعد ذلك إلا علم أو علمان مثل علم الوضع عند عضد الدين الإيجي وعلوم القرآن عند
الإمام الزركشي ثم الإمام السيوطي وبعد ذلك في القرن العشرين أصبحت تدرس في الأكاديميات العلمية علم الوضع ويدرس أيضا علم علوم القرآن فهل يمكن أن يعني يستجيب العلماء لدعوة الشيخ رشيد رضا من أكثر من مائة سنة ولم يحدث أي شيء إلا مؤلفات بسيطة لا تتجاوز المؤلفات العشرة في هذا المعنى بما لم يجعلها علما حتى الآن لكن كان المرجو والمقصود من كلام الشيخ رشيد رضا أن تتحول هذه المعاني إلى علوم تدرس وتكون متفرعة مثلا من علم التفسير
أو من علم علوم القرآن، وتولد العلوم وانفصالها كان من سمات الحضارة الإسلامية، حيث مثلا انفصل علم المواريث من الفقه وأصبح علما مستقلا بذاته له المتخصصون فيه الذين قد لا يتقنون غيره، وكما استقل علم القراءات عن علوم القرآن في مجملها أو عن التفسير فإن عالم القراءات لا يستغني أبدا عن التفسير في توجيه قراءاته وفي فهمها وهكذا، إلا أن علم القراءات قد استقل بنفسه. توليد العلوم واستقلال العلوم من سمات الحضارة الإسلامية. هناك أيضا النفس والسنن المتعلقة بالنفس، والنفس كلمة قد تشمل
الفرد في ذاته. وقد تشمل الجماعة وقد تشمل المجتمع وقد تشمل الأمة فالأمة نفس واحدة وأن هذه أمتكم أمة واحدة إذن النفس كلمة لها درجات درجة في ذات الإنسان ودرجة تتحدث عن الأسرة عن جماعة المسجد عن جماعة المدرسة عن جماعة العمل عن جماعة الجوار والجيران ثم هناك أيضا بعد ذلك ما يتحدث عن المجتمع الذي له مؤسساته وله مشكلاته التي تتعلق بالأمية وتتعلق بالبطالة وتتعلق بالحالة الصحية وتتعلق بمؤسسات الدولة وتتعلق بمدى الحريات فيها إلى آخر ما هنالك وهناك أيضا الأمة
بمعنى تلك الأمة الواحدة التي نراها تجتمع اجتماعا واحدا في الحج إلى بيت الله الحرام من كافة أنحاء الأرض ومن جميع الجنسيات ومن كل اللغات وهناك أيضا ما يتعلق بالعالم المحيط بنا ونحن في عصر قد رفعت فيه الحدود وسمي ذلك بالعولمة والاتصالات والمواصلات والتقنيات جعلتنا نعيش في الجوار فكلنا نتجاور يؤثر بعضنا في بعض تنتقل الأفكار بسرعة مذهلة وآنية بحيث إنها وهي تخرج من فم مبدعها أو مبتدعها فإنها تسمع فورا وفي العالم كله أن السنن المتعلقة بالنفس أيضا لها قواعدها
ولها كيفية دراستها وكيفية الاستفادة منها بعد هذه الدراسة، كذلك السنن التي في الآفاق وهي قد تطورت جدا في العلوم التجريبية أو من خلالها التي من الله على الإنسان بمعرفتها في العصور المتأخرة، كثير من العلماء إذا ما كتب أولئك الذين يستنبطون مما يرون الإلحاد، فإنهم يستنبطون من ذات الرؤية الإيمان، ولذلك نراهم يؤلفون كتابا يسمونه مثلا "الله يتجلى في عصر العلم" أو
آخر يسميه "العلم يدعو للإيمان" أو آخر يسميه "الإنسان ذلك المجهول" وغير ذلك من الكتب الكثيرة التي ترى رؤية أخرى وتقرأ قراءة أخرى لذات الموضوع العلم والطب محراب الإيمان إلى آخر هذه الكتب التي تقرأ الحقائق نفسها ولكن بصورة أخرى، فداروين مثلا عندما يتحدث عن التطور يصدقه ذلك العالم ويقول سبحان الله، كلامك صحيح من ناحية الوصف لكنه خاطئ من ناحية التفسير، فنعم هناك تشابه بين كل هذه المخلوقات وهذا دليل على وحدانية رب العالمين الذي خلق كل ذلك ولم يخرج
عن خلقه شيء، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه. جاء أحد الملحدين وهو يقول لا يمكن أن يكون لهذا الكون إله، لماذا؟ قال لأني رصدت في مستنقعات الأمازون في البرازيل هذه الكائنات، عشرة آلاف كائن حي تؤخذ من المياه كل يوم. نرصدها ونسجلها على الحاسوب بواسطة المجهر المجهري ونرى أشكالها ونحفظها والغريب أنها تنتهي تماما ولا وجود لها إطلاقا عند الغروب وكأنها تحلل
نفسها، ثم بعد ذلك تتكون عشرة آلاف أخرى فنأخذها في اليوم التالي وفي اليوم الثالث عشرة أخرى وفي اليوم الرابع عشرة أخرى، إذا كان لهذا الكون خالق فهذا عبث، وعلى ذلك فإذا كنتم تقولون بالخالق فهذا الخالق ليس بحكيم. ما الفائدة؟ هو يتساءل ذلك الملحد عن أن يخلق كل هذه الأعداد. كل يوم نحن نرى أنه ليس هناك إله وأن الأمر هو أن الطبيعة تكون هذا دون حكمة ودون وعي ودون إدراك، وطبائع قوانين هذه الأشياء تجعلها تنتهي في آخر النهار وينتهي الأمر، فعندما سمع المؤمن منه ذلك صرخ فقال: لا إله
إلا الله، سبحانه وتعالى ما زال خالقا، وهذا إثبات لهذا، وكان ينبغي عليك أن تقرأ هذا لا أن تنفي الخالقية التي هي أوضح من الواضحات، ولا يصح في الأشياء في الأفهام شيء إذا احتاج اليوم إلى دليل لا يصح العقل قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم فربنا سبحانه وتعالى لا يزال خالقا وتلا عليه قوله تعالى كل يوم هو في شأن فشأن ربنا الآن هو أن يخلق هذا وهو ما زال خالقا فيحيي ويميت وهو ما زال يحيي ويميت سبحانه وتعالى
أبدا، فإذا كنا لا نرى هذا في الكائنات الحية بصورة لافتة للنظر، فها أنت قد رأيته في الكائنات الدنيا التي تسمى بالأميبا وحيدة الخلية أو كذلك، فكان ينبغي عليك أن تقول سبحان الله لا قوة إلا بالله، هذا خالق قوي قدير حكيم لا نهاية لقوته ولا لحكمته لا أن تقول أن هذا يدل على إنكار الإله كذلك ألف بعضهم في تأثر جماعات النمل وجماعات النحل بعضها ببعض مع تباعد الأميال وتباعد المكان فإذا تصرفت مجموعة من النمل في الهند تصرفا معينا
من الهدوء أو من السكينة أو من الاضطراب أو من الهيجان فإننا نرى في أمريكا في ذات الوقت كذلك يحدث لزملائها من جنسها، فما الذي وصل هذا بذاك؟ إنه ينكر وجود الخالق الحكيم من أجل هذه الرؤية، والمؤمن يقرأ نفس الشيء فيقول سبحان الله. فرويد عندما تحدث عن النفس الإنسانية لا ننكر شيئا مما قال، لكننا نقول له أنت تصف النفس الأمارة بالسوء فقط لا غير أن هناك نفسا لوامة وهناك نفسا ملهمة وهناك نفسا مطمئنة وهناك نفسا راضية وهناك نفسا مرضية وهناك نفسا كاملة، من قال لك إن النفس نسلمها
عندما تقول لإشباعها من سعارها الجنسي؟ من قال هذا؟ لم يقل بهذا إلا أنت في تفسيرك لا في وصفك، ووصفك صادق دقيق ولكن لنا قراءة أخرى، هذه القراءة إنما تكون من خلال سنن الله سبحانه وتعالى الكونية، السنن الإلهية إذ لها مصادر ولها حقائق ولها مفاهيم، وهي أدوات يمكن بها التفسير ويمكن عمل شبكة منها لنتبين سنن الله سبحانه وتعالى في كونه، السنن الإلهية مع المقاصد الشرعية مع منظومة القيم المأخوذة من أسماء الله الأسماء الحسنى مع قضية المبادئ القرآنية
تمثل وحدة تندرج تحت مفهوم النموذج المعرفي كما سبق في لقاء آخر أن أوضحنا، إلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة