وقال الإمام | أ.د علي جمعة | الحلقة 24 | تجديد اصول الفقة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. من مبادئنا أننا نرى أن الدنيا تتطور وتتغير وتتبدل وأن الواقع ليس ثابتا وأنه لا بد علينا من أن نجدد علومنا وأن من سمات الحضارة الإسلامية توليد العلوم. لم يكتف المسلمون بالنقل كتابا وسنة. بل إنهم فكروا وتدبروا وقاموا بإنشاء علوم كثيرة لخدمة المحور الذي هو كتاب الله محور
الحضارة وكلمة محور الحضارة معناها أن منه المنطلق وأنه هو معيار التقويم وأن له الخدمة فهو يخدم وأن منه الهداية وتتولد الأفكار هذا معنى المحور جعلوا كتاب الله هو محور حياتهم ولذلك فقد أنشأوا علما يسمى بعلم النحو، أنشؤوا علما آخر يسمى بعلم الصرف يهتم بضبط الكلمة في هيكلها من اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم الآلة إلى آخر ما هنالك من اشتقاقات، وفرقوا بين المصدر والمشتق وكيفية نضبط كل ذلك. جعلوا هناك علما آخر لمتن اللغة لدلالات الألفاظ، وقام الخليل
بن أحمد بتأليف كتابه الممتع العين وجعله مرتبا على مخارج الحروف فهناك حروف الحلق ثم حروف طرف اللسان ووسط اللسان وأقصى اللسان وطرف اللسان وأوسط اللسان ثم الحروف الشفوية ورتبه بطريقة عجيبة لعلنا نتحدث عنها بعد ذلك فحافظوا إذن على اللغة التي كتب بها هذا النص العظيم الذي أنزل الله سبحانه وتعالى هداية للعالمين وجعله كتابا ووضعوا أيضا علما وأسموه بعلم العقيدة أو علم الكلام أو علم التوحيد أو أصول الدين وهكذا
تتعدد أسماؤه لشرفه وعلوه ووضعوا فيه المسائل المعرفية التي اهتم بها الفلاسفة عبر القرون كيف يعلم الإنسان ماذا يعلم الإنسان كيف تنتقل المعلومات من الحس إلى الدماغ تتم عملية التفكير وهو المسمى بالإنجليزية الإبستمولوجي، فهذا الإبستمولوجي نراه في مقدمات علم الكلام وهم يؤلفون فيه أنشأوا علم الفقه، ثم بعد ذلك أنشأوا الكامن في علم الفقه وأخرجه الإمام الشافعي في الرسالة كيف يفكر المجتهد فصار منهجا من المناهج العلمية التي قلدها الناس عبر التاريخ والتي أثرت في الحضارة أوروبا روجرز بيكون عندما تكلم عن المنهج العلمي نقل
تعريف الإمام الرازي ومدرسته من الإمام البيضاوي والإسنوي وغيرهم إلى العالم الحسي. الإمام الرازي يقول في أصول الفقه مثلا: معرفة الدلائل الفقهية إجمالا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد، يعني مصادر البحث وكيفية البحث وشروط الباحث، وهي الثلاثة التي يتحدث عنها روجرز. يكون دون أن يشير من أين أخذ هذا المنهج العلمي الذي ملأ الأرض بعد ذلك أن روجرز بيكون هو الذي أتى بالمنهج العلمي تحديد المصادر وكيفية البحث وشروط البحث هذه الثلاثة بهذا الترتيب هي عينها تعريف الرازي ومدرسته لمدرسته لأصول الفقه أنشؤوا أصول الفقه وأنشؤوا أيضا علم الأخلاق
الذي سمي بالتصوف أنشؤوا وتفاعلوا مع العالم عندما رأوا وعرفوا أن كلامهم لا يصل إلا بعد أن يتكلموا لغة العالم فترجموا الأورجانون العظيم لأرسطو وأخذوا منه المنطق وحذفوا منه المنطق هذا كان تسعة أبواب اكتفوا منها بالتصور والتصديق وجعلوا هناك مقدمات لغوية في دلالات الألفاظ المطابقية والالتزامية والوضعية وكذلك إلى آخره وتكلموا كلام واسع في هذا المجال والتضمين وما إلى ذلك مما يذكرونه في المنطق حتى أنهم
أضافوا بابا بذاته اسمه الجهات، فحذفوا وأضافوا ورتبوا واكتفوا وقدموا وأخروا حتى يتوافق هذا المنطق مع لغة العرب وحتى يعبروا تعبيرا صادقا عما أرادوا من ترتيب الأفكار وضبطها بهذا القانون. فنسبة المنطق للجنان كنسبة النحو إلى اللسان، أنشؤوا علوما كثيرة خدمة لهذا المحور، وتوقف توليد العلوم حتى إننا رأينا بعد القرن الرابع أنه يكاد ألا يتولد علم، تولد علم الوضع مثلا مع الإيجي عضد الدين الإيجي في القرن السابع، وتولد أيضا في القرن الثامن
في أواخر الثامن مع الزركشي قضية علوم القرآن ولكن العلوم الكثيرة المتكاثرة من التفسير ومن العلوم اللغوية المختلفة ومن الفقه والأصول والأخلاق والتوحيد وكذلك إلى آخره وعلوم الحديث أكثر من عشرين نوعا من أنواع الحديث الجرح والتعديل ومصطلح الحديث والرواية والدراية كل ذلك كان في القرون الأربعة الأولى إذا أردنا أن نعود مرة منهج السلف منهج الصالح فعلينا أن نولد العلوم وأن نجدد هذه العلوم. الفقيه يحتاج عندما يريد أن يفتي فتوى إلى إدراك الواقع، ونحن نتحدث اليوم عن قضية تجديد أصول الفقه. عرفنا
علينا بد لنا أن نجدد أصول الفقه وأن هذا هو دأب السلف الصالح، فما الذي نفعله إذن؟ أولا نريد أن نعرف من أصول الفقه كل المسائل التي تعد عارية وأنها جاءت فيه على سبيل الاستطراد أو على سبيل استكمال الفائدة فإن كثيرا ما نجد مسائل قد تكون لغوية وقد تكون منطقية وقد تكون كلامية شحن بها علم الأصول ولو أننا خلينا علم الأصول من هذه الزيادات وجعلناه قاصرا صنع ما وضع له كذلك للفهم وكيفية البحث لاستنباط
الأحكام الشرعية المرعية من مصادرها الموثقة من الكتاب وصحيح السنة لكان ذلك أجدى. القضية الثانية هي نريد أن نصنع رحلة كما ذكرنا قبل ذلك في نظريات أصول الفقه في عقل الفقيه ونرى كيف يفكر، وهناك عندما فعلنا هذا فإننا خرجنا بنظريات أسميناها بنظريات الأصول. نريد في تجديد أصول الفقه أن نرتب مباحثه طبقا لهذه النظريات بترتيبها المعروف المشهور وهو الحجية، ثم بعد ذلك التوثيق، ثم بعد ذلك الفهم، ثم بعد ذلك مساحة القطعي والظني،
ثم بعد ذلك الإلحاق، وبعد ذلك التعارض والترجيح، وبعد ذلك المقاصد، وبعد ذلك شروط الباحث. هذه النظريات نريد أن نرتب الأصول على ذلك حتى يكون أدعى للقبول والفهم ويكون فيه منطق يتم سوف تتم عملية تقديم وتأخير وتصنيف وتفصيل وتقسيم لما معنا من مادة أصولية. ثالثا تجديد أصول الفقه يتمثل في إضافة أصول يستطيع بها الفقيه أن يدرك الواقع، حيث إن الواقع جزء لا يتجزأ
من عملية الفتوى كما سبق وأن ذكرنا في حلقة صناعة الإفتاء، فالواقع الذي عاشه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أو الإمام محمد بن إدريس الشافعي بعد ذلك بمائتي عام أو الإمام إبراهيم الباجوري رضي الله تعالى عنه شيخ الأزهر في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي وتوفي الشيخ الباجوري سنة ألف ومائتين وسبعة وسبعين هجرية أي في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، حياة واحدة لا تتغير. البرنامج اليومي لكل أولئك كان واحدا. إذا أراد الباجوري أن يزور أخا له أو قريبا له في الإسكندرية فإنه سوف يتخذ
من الوسائل ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتخذه، فالبرنامج واحد. والأوقات وطريقة نقل الأخبار هي واحدة، بعد هذا العصر، عصر الإمام الباجوري يعني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي وفي أواخر القرن الثالث عشر وبدايات القرن الرابع عشر الهجري، وجدنا العالم يتغير في المواصلات والاتصالات والتقنيات الحديثة، تغير العالم، تغير معه الواقع، رفعت الحدود حتى وصلنا في عصرنا. هذا وبعد مائة وخمسين سنة تقريبا من عصر الإمام الباجوري إلى العولمة، رفعت الحدود، أصبحنا نعيش في الجوار، أحداث أمريكا يراها
من في اليابان في اللحظة نفسها، الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة جعلتنا جميعا نطلع على كل شيء فورا ومباشرة، فما هذا الحال؟ هذا حال جديد أنشأ تعقيدا في العلاقات البينية الاجتماعية أنشأت مفهوما جديدا للمصالح، وأنشأت مفهوما جديدا للقوة، وأنشأت مفهوما جديدا لسير الحياة، وأنشأت عناصر جديدة كان ينبغي لنا أن ندركها أو لا بد لنا من إدراكها. لاحظنا أن مجموعة العلوم الاجتماعية والإنسانية نشأت في منتصف القرن التاسع عشر من أجل تفسير ذلك الواقع، علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد
وعلم السياسة وعلم الإدارة وهكذا، التعامل مع هذا الواقع بمفرداته وعوالمه المختلفة: عالم الأشياء، عالم الأشخاص، عالم الأحداث، عالم الأفكار، بل وعالم النظم أيضا. هذه العوالم التي تكون الواقع لا يمكن إدراكها على ما هي عليه حتى يمكن أن ننزل عليها أحكام الله وحتى يمكن ألا نخرج بهذا الإدراك عن المقاصد الشرعية وعن المصالح المرعية، فإن إدراك ذلك لا بد أن يتم من خلال دراسة. للأسف فإن مجموعة العلوم الإنسانية والاجتماعية كانت من نموذج معرفي آخر غير النموذج المعرفي الإسلامي، فهل يمكن أن ننشئ علوما اجتماعية وإنسانية منطلقة من النموذج المعرفي الإسلامي ونتائج هذه
وقواعدها يمكن أن تستخلص فتوضع في أصول الفقه كنوع من أنواع تدريب الفقيه على إدراك الواقع، هذا هو الذي نعنيه بكلمة تجديد أصول الفقه، ففيها حذف وفيها إضافة وفيها إعادة هيكلة وترتيب وفيها نوع من أنواع معرفة الأداة وفيها تحويل أصول الفقه إلى منهج لأن أصول الفقه فعلا هو منهج، والمنهج عندي هو الرؤية الكلية التي تنبثق عنها إجراءات وهذا موجود في أصول الفقه في استمداده فهو يستمد من علم العقيدة والكلام يستمد من اللغة العربية ويستمد من الفقه
الإسلامي هذه هي العلوم التي يستمد منها أصول الفقه كل علم له مبادئ عشرة معروفة من ضمنها الاستمداد فمن أين يستمد أصول الفقه ومن أين أخذ حتى أن بعضهم يرى أن أصول الفقه علم بيني يعني أخذ شيئا من هذا وشيئا من هذا وشيئا من هذا ولكن الإمام ابن السبكي والإمام الزركشي وأنا معهم نرى أن علم أصول الفقه قائم بذاته وإن كان له كشأن كل العلوم وكشأن كل العلوم الاستمداد من العلوم الأخرى: إن لأصول الفقه استمدادا، ولكن ينبغي علينا أن نحذف منه ما دخل فيه وليس منه، وأن نضيف إليه أدوات جديدة، وأن نرتب ما فيه، ثم
بعد ذلك نعتبره منهجا. وأخيرا نريد أنه كما استفدنا من العلوم الإنسانية والاجتماعية، أن يفيد أصول الفقه بترتيب نظرياته وأن يفيد عقل المفكر الإنساني والاجتماعي فتجديد أصول الفقه سوف يجعله قادرا على التأثير في العلوم الإنسانية والاجتماعية وترتيب أفكار الباحثين فيهما وأيضا يستفيد من هذه العلوم في نتائجها من أجل إدراك الواقع بعوالمه المختلفة هذا نموذج من تجديد أصول الفقه وإن كان حاول كثير من الناس أن يقترحوا مقترحات إلا أنهم لم يقاربوا أصول
الفقه، هذه المقترحات جمعتها باحثة في جامعة قسنطينة الأمير عبد القادر وفي الجزائر، وكنت مشرفا عليها في رسالة جيدة جمعت أكثر من خمس وثلاثين محاولة للتجديد، لكنها لم تقترح أي محاولة منها شيئا، إنما هي دعوة للتجديد وليست هي تجديد أصول الفقه، أصول الفقه يتغير بتغير الزمان. والواقع عند السادة الجعفرية، ولكن هذه الدعوات الخمس وثلاثين محاولة نقدتها وفندتها في رسالتها نحو تجديد أصول الفقه، وهذه الباحثة أخذت بها درجة الدكتوراه
من جامعة الأمير عبد القادر تحت عنوان تجديد أصول الفقه، واسمها الدكتورة جميلة بوخاتم العلاوي. تجديد أصول الفقه لا يحتاج إلى أن ندعو إليه، فهذه ينبغي أن نتجاوزها حتى ندخل في أصول الفقه، وكثير جدا من إخواننا يقول: كيف تطور أو تجدد أصول الفقه؟ أصول الفقه غير قابلة للتجديد أبدا. أصول الفقه قابلة للتجديد في الشكل وفي المضمون أيضا. أما من ناحية الشكل فبالحذف، وأما من ناحية الشكل فبإعادة الهيكلة، وأما من ناحية الشكل فبالأسلوب السهل الذي يعرض والذي بدأه أمثال محمد الخضري وانتهى بشيخنا
الشيخ محمد أبو النور زهير، أصول الفقه أيضا في المضمون ينبغي أن يضاف إليه هذه الأدلة المنهجية من العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكذلك يفيد كمنهج، وهذه الإفادة ستجعله يؤثر ويتأثر بمجموعة العلوم، وهذا هو المقصود بتجديد أصول الفقه الذي كتبنا بعض الكتابات ولكن الأمر في بداياته ويحتاج إلى مزيد من الجهد ويحتاج إلى اقتناع من الشرعيين حتى ننطلق في هذا التوجه وهذا سوف يؤثر كثيرا في إنزال الأحكام على الواقع مع الحفاظ دائما على المقاصد الشرعية العظمى وعلى الحفاظ على مصالح الناس والمسلمين وعلى مراعاة طبيعة
هذه الدعوة من أنها دعوة مفتوحة ليس فيها كهنوت، ليس فيها سر، ليس فيها عرقية ولكنها دعوة عالمية. ومن ناحية أخرى لا نريد أن نصد عن سبيل الله ولا أن نكون حجابا بين الخلق والخالق. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.