سورة المائدة | ح 1050 |90| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 1050 |90| تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾. آية تتفكر كتاب الله في سورة المائدة يأمرنا فيها ربنا سبحانه وتعالى بأن نعتني العناية الكاملة في اجتناب. هذه الأربعة والخمر كما قدمنا عند جمهور الفقهاء نجسة وشرطنا لذلك أن تكون مسكرة، فإذا خرجت عن حد الإسكار تحولت واستحالت خلاً، وحينئذ تكون طاهرة.
وإذا لم تستعمل في الشرب فإنها يجوز عند الحنفية استعمالها خاصة في أغراض الطب أو في أغراض التطييب. الخمر بها كحول، وكلمة alcohol بالإنجليزية حولوها. بالعربية إلى "كحول"، لكن أصلها هو "الغول". لا يوجد فيها غول في صفة خمر أهل الجنة. "غول" تحولت إلى
"كول" فإلى "قهول". والغول في لغة العرب هو الاغتيال، لأنها تغتال العقل وتكون حجاباً يمنع العقل من الإدراك ومن التفكير المستقيم، فتحدث ظاهرة السكر. والكحول بعدما حللوا المواد وجدوا فيه أنها رابطة عضوية ما بين عنصري الكربون والأكسجين، ووجدوا أن الكحول أنواع مش نوعاً واحداً، فقد يصل عددها إلى ستة عشر نوعاً، وهي
تركيبات مختلفة ما بين الأكسجين وما بين الكربون. وعلى ذلك يأتي السؤال: ما هذا الكحول الذي هو موجود في الخمرة المشروبة والذي يسبب ظاهرة الإسكار؟ وهنا يقولون إنه الكحول الإيثيلي لأن هناك كحول إيثيلي وهناك كحول ميثيلي وهناك كحولات ثانية في درس الكيمياء يتم شرحه، أما نحن فالإيثيلي هذا هو الذي يسبب السكر. الإيثيلي هذا مصنوع منه الإسبرتو الأبيض الذي نطهر به الجروح، ومصنوع
منه بعض أنواع العطور لأنه طيار فوّاح، فيعمل على تطاير العطر ويجعله فوّاحاً، فالحنفية اشترطوا اشترطوا الاستعمال في الشرب هو الذي يُعتبر حراماً، أما الكحول (الإسبرتو الأبيض) في ذاته فلا مانع من استخدامه لتطهير الجروح، ولا مانع من وضعه قبل إعطاء الحقنة. فالاستعمالات الطبية للكحول حلال لأنه فقد شرطاً من شروط الحرمة وهو الاستعمال [للشرب]. أما الكحول الميثيلي، فهذا يُصنع منه المواد المشتعلة والوقود. يدهن به الأثاث،
الجمالكة هذا ليس نجسًا أصلًا فليس أصلًا إيثيلي ولا هو معنا إطلاقًا، هذا ميثيلي سام الذي يشربه يتسمم وليس يسكر، لكن الإيثانول هو الذي يُستخدم أحيانًا في الطب وأحيانًا يُستخدم في العطور. والحنفية تجيز ذلك إذن من احتاج إلى شيء من ذلك، قلد الحنفية دون تردد فإن الفقه الإسلامي واسع، ومن أراد أن يتنزه أو أن يقتصر على المركزات فليفعل، هو حر. كلها عندنا واضحة، نسير بحرية ما دام يوجد خلاف، فيجوز أن نستفيد من
الخلاف. "يا أيها الذين آمنوا" لم يقل "يا أيها الناس" كما قدمنا في حلقة سابقة، فالخمر حلال عند... اليهود إلى درجة السكر وهو حلال عند المسيحية، قليل منه يصلح المعدة كما في رسائل بولس، ولكن الخطاب هنا للذين آمنوا من المسلمين أنكم تجتنبون الخمر تماماً، لا قليل ولا كثير. يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر... قليل من المحققين يرى الخمر في ذاتها طاهرة، خلاف
الحنفية حيث أباحوا الاستعمال الطبي والعطري وما إلى ذلك، وخلافاً للجمهور الذين يقولون إنها نجسة في عينها، إلا في هذا عند الحنفية وغيرهم. لا، بل هم يرون أن الخمر أصلاً طاهرة واستدلوا على ذلك بما حدث في المدينة عند نزول الآية، فلما وصف الله الخمر بأنها رجس في الآية "فاجتنبوه" بادر الصحابة فألقوا ما عندهم من مخزون الخمر. كانت العرب تحب الخمر، ومن شدة حبها للخمر أسمتها بتسعين اسماً في لغة العرب. والعرب كانت إذا أحبت شيئاً أو خافته أكثرت من أسمائه، فلأن
الخمر فكان محبباً عند العربي فإنهم أسموها بأكثر من تسعين اسماً كالخمر والشمول. والداء والدواء والعجوز والصفراء والقهوة. "القهوة" هذا اسم من أسماء الخمر. أسماء كثيرة، تسعين اسماً. فلما سمعت الصحابة الآية ألقوا ما عندهم من الخمر، وكان كثيراً. كل واحد محتفظ بجرة أو جرتين أو ثلاثة حتى لا تنقطع الخمرة من البيوت. انظروا إلى قوة الإيمان، الذي جعلهم يريقون
كل هذا الشيء المحبب عندهم الذي يتعلقون به، وبعضهم مدمنون له، كل هذا هكذا في الطرقات. أين الدليل حتى زلقت طرقات المدينة؟ زلقت إذن أصبح الخمر يصل إلى الركب هكذا، فكان الصحابة تخوض فيها في طريقهم إلى المسجد للصلاة. يعني الخمر أغرقت الملابس وأغرقت القدم وأغرقت كل شيء، ويدخل إلى الصلاة "الله أكبر"، فإذن ليست نجسة. أخذوا من هذا الموضع عدم نجاستها، إذن هناك قول للمحققين تجده عند نيل الأوطار
للشوكاني، وكذلك إلى آخره. يُقرر أن الخمر، بخلاف ما عليه الجمهور، ليست بنجسة. وهؤلاء عندهم المسألة منفكة في الإسبرتو والعطور لأنها طاهرة. وورد أن هذا الخلاف إنما هو خلاف قديم من لدن الصحابة. وأن خالداً خالد بن الوليد سيف الله المسلول وحِب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالخمر، لم يكن يشربها وإنما كان يغتسل بها. يغتسل بها يعني ماذا؟ مثل الكولونيا هكذا، يغتسل بالخمر. إنهم يسمون الأشياء بأسمائها، لا يسمونها بأن هذه شامبانيا وهذا
ويسكي وهذه كولونيا، لا، كل هذا خمر كان يغتسل بالخمر، وقيل إن هذا كان سبباً من أسباب إقالته من قيادة الجيش، لأن سيدنا عمر أرسل إليه أن امتنع عن هذا فأبى. قال له: "أنت مالك في خلاف فقهي"، إذ كان سيدنا عمر يرى أنها نجسة وسيدنا خالد يرى أنها طاهرة. قال له: "لا، عليك أن تتنحى إذن الجيش فنحاه عن قيادة الجيش، وإن كان قد أورد مثل هذه الأخبار ابن عبد ربه في العقد الفريد، فهي تحتاج إلى مزيد توثيق، لكن يُؤخذ منها ويُستشم أن خلافاً حدث بين
الصحابة في فقهها، وأن بعضهم كان يرى أنها طاهرة والجمهور يرى أنها نجسة. إنما الخمر عندما تبدأ في مع الخمر هذه، الخمر هذه من البلايا والميسر، فما مناسبة عطف الخمر على الميسر؟ مناسبة ذلك والله أعلم أن كليهما يسبب الإدمان، فالمشتغل بالقمار يكون عنده إدمان، والمشتغل بالخمر يؤدي ذلك إلى الإدمان. والإدمان معناه أنك لا تسيطر على نفسك، والشرع
يريد أن تسيطر على نفسك لأن أمامك برنامج طويل من التربية ومن مقاومة النفس، وهذا لا يتأتى مع المدمنين. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.