أبو حامد الغزالي | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين، معاً في تاريخ التشريع الإسلامي، ومعاً من خلال تراجم العلماء. الأئمة الأعلام، تحدثنا في حلقات سابقة عن الفقهاء من الصحابة، وعن الفقهاء من التابعين، وعن الفقهاء من أتباع التابعين، وعن الأئمة المتبوعين الثمانية، وهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وجعفر الصادق، وزيد بن
علي، وابن حزم الظاهري، وأيضاً الإباضية. تحدثنا عن هذه المذاهب الثمانية المعمول بها حتى الآن. والتي لها أتباع كثروا أو قلوا حتى يوم الناس هذا، نتكلم اليوم عن إمام الأئمة وبدر التتمة، عن سيد الشافعية في عصره، عن الإمام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، والذي سُمي بحجة الإسلام لأنه استحق هذا اللقب عن جدارة. كان الغزالي، وابن السبكي في الطبقات يقول أن... هناك قراءة أخرى يقرؤها
الغزالي، فإذا كان الغزالي يكون من صانع الغزل، فالغزال هو صانع الغزل، وهذا شاع في أهل خوارزم وجرجان، فإنهم ينسبون إلى القصار والعطار والغزال فيقولون القصاري والعطاري مع كون اللفظ نفسه نسبة. والغزالي هذا هو الشائع نسبة إلى غزالة وهي قرية من قرى طوس وورد. أنَّ ذلك عُرض على الإمام أبي حامد: هل أنت غزالي أم غزالي؟ فكان يحب الغزالي ولم يكن يحب الغزالي. وعلى ذلك فنحن - لأنه كان يحب هذا ونحن نحب ما يحبه - نقول إنه كان اسمه
الغزالي. وُلِد رحمه الله تعالى في القرن الخامس الهجري سنة أربعمائة وخمسين في طوس يُسمى طابران وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، وهذا هو الذي جعل الناس يظنون أنه غزالي. فلما حضرته الوفاة أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له من أهل الله ومن أهل الخير. الشيخ أبو حامد الغزالي محمد له أخ آخر اسمه أحمد الغزالي. قال له: خذ بالك. من الأولاد علّمهم رعايتهم، وهكذا كان حال المسلمين. كان هناك تكافل اجتماعي مجتمعي في وسط الأصدقاء والأقارب بقوة. هذا الرجل لم يكن قريبًا وإنما كان صديقًا أنفق عليه هذا
الوصي ما خلفه لهم أبوهما. يتبين أنه كان رجلًا عاقلًا، كان رجلًا أمينًا، ثم أودعهما في مدرسة ليطلبوا العلم. إنه رجل لأنه اختار لهما طريق العلم، لأن هذا الرجل الوصي مع أمانته كان فقيراً ولم يستطع الإنفاق على الإمام الغزالي، فأدخله هذه المدرسة. كانت المدارس تصرف على أتباعها مثل المدارس الداخلية هكذا، ولكن كانت مرصودة لها أوقاف تصرف على أهل هذه المدرسة، فكان الإمام الغزالي يحكي عن هذه. المرحلة ويقول: طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله. لما طلبوا العلم طلبوه لأجل أن يأكلوا ولأجل أن يشربوا ولأجل
كذا، فلما دخل في العلم عرف كيف يخلص النية لله. فصارت هذه العبارة من الإمام الغزالي مثلاً يقولها يعني: طلبت العلم كثيراً، طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون لله الإنسان يدخل الكلية ويريد أن يكون طبيباً أو مهندساً أو عالماً في الدين أو لغوياً، ثم إذ به عندما يكتشف حقيقة الكون وحقيقة العلم ويرى أين هو من الله سبحانه وتعالى، يسوقه الطب إلى الإيمان بالله، تسوقه اللغة إلى الإيمان بالله، يسوقه الشرع إلى الإيمان بالله والإخلاص له سبحانه وتعالى فيأبى العلم إلا أن يكون لله. اشتغل الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بداية أمره وهو صبي صغير بقراءة
الفقه على رجل شيخ كان اسمه الشيخ أحمد الراذكاني في بلدته طوس، ثم بعد ذلك رحل من طوس إلى مكان يسمى نيسابور، وهي مدينة أخرى في الجغرافي لطوسم اسمها نيسابور واختلف وذهب إلى دروس إمام الحرمين أبي المعالي الجويني فأبو المعالي الجويني كان شيخاً له وبعد ذلك صار من الأعيان المشار إليهم في زمن أستاذه وكان الجويني لا يزال حياً وكان الإمام الغزالي قد أصبح إماماً كبيراً وكان إمام الحرمين يصف تلاميذه فيقول الغزالي بحر مغدق لاحظ نجابة تلميذه وشدة حفظه وشدة
استحضاره واسترجاعه، فكان يقول هذا الكلام: بدأ الإمام الغزالي في هذه الفترة المبكرة في تأليف كتاب "المنخول"، وعرضه على شيخه الجويني. له "البرهان"، فأُعجب به قائلاً: "دفنتني وأنا حي، هلا صبرت حتى أموت". يداعبه قائلاً: "إن كتابك المنخول هذا جعلني أنا الذي كنت أتعلم شيئًا؟ هذا مدح من الأستاذ للتلميذ. بالطبع، الجويني هذا شيء مختلف تمامًا، إنه شيء متفوق، أي شيء عظيم جدًا. كان أستاذه يفتخر به، ولم يزل الغزالي ملازمًا للجويني إلى أن توفي. ثم لما توفي الجويني، خرج الغزالي من نيسابور إلى بلدة أخرى اسمها العسكر، والتقى هناك.
كان حاكم هذا المكان يُدعى الوزير نظام الملك. بدأ نظام الملك يسمع عن فضل الغزالي وعلمه ومكانته عند الإمام الجويني قبل أن يأتي الغزالي، فأكرمه وعظّمه وفوّض إليه تدريس مدرسة أنشأها هذا الوزير تُسمّى المدرسة النظامية، نسبةً إليه لأنه نظام الملك، في مدينة بغداد. فذهب إلى بغداد وبدأ إلقاء الدروس وهذا في سنة أربعمائة وثلاثة وثمانين، يعني هو عنده أربعمائة وثلاثة وثمانين أو أربعة وثمانين، فيكون عنده أربعة وثلاثين سنة، ما زال شاباً لكنه أصبح من كبار العلماء. أُعجِب به أهل العراق وارتفعت منزلته عندهم جداً، وأعجب الجميع في الحقيقة بتدريسه، وحضر
مجلسه أناسٌ كبارٌ جداً. أئمةٌ كبارٌ كابن عقيل أبي الوفاء بن عقيل وأبي الخطاب الكلواذي، وقد تعجبوا من كلامه ونقلوه في كتبهم بالرغم من أنهم ربما كانوا أكبر سناً منه. كان الرجل زاهداً مؤدباً، فأقام على التدريس والفتوى والتصنيف مدةً، وأصبح عالي الرتبة عند الناس، ولكنه فجأةً ترك جميع ما كان عليه في سنة مائة وأربع وثمانين، ثمانية وثمانين، فإذا كان يدرس أربع سنوات وسلك طريق الزهد والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، وأول ما فعل قصد بيت الله
الحرام وحج، وناب عنه أخوه أحمد الغزالي في التدريس. فلما رجع توجه إلى الشام، فأقام بمدينة دمشق مدة واعتكف هناك بالمنارة الغربية من الجامع الأموي. ففي المنارة الغربية هذه، كانت المنارات كبيرة وكان يوجد فيها ما يشبه الغرفة اعتزل فيها، أصبحت خلوة كأنه يختلي فيها، ويأكل ويشرب فيها. هذه المنارة كان الغزالي يكثر الجلوس في زاوية الشيخ أبي الناصر أبي نصر المقدسي بالجامع الأموي المعروفة بالغزالية نسبة إلى الإمام الغزالي إلى الآن. انتقل من دمشق المقدس إلى القدس فرج الله عنها وردها إلينا سالمة
ثم قصد مصر وأقام بالإسكندرية، إذ الرحلة قامت بدور كبير جداً في حياة الإمام الغزالي. كانت له فلسفة وكان له كثير من التصوف، فألف كتابه الماتع الذي ما زال مصدراً كبيراً للأخلاق الإسلامية وللتخلية، تخلية القلب من كل قبيح وتحليته بكل في كتاب "إحياء علوم الدين" يشير الإمام الغزالي إلى أنه مجدد لهذا العصر. توفي الإمام الغزالي سنة خمسمائة وخمسة، وفيه صفات المجددين. "يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لأمتي أمر دينها". استمر الإمام الغزالي في خلوته نحو عشر سنوات حتى حدث له ما يسمى بالشك
المنهجي. الذين بعد ذلك اعتمدوا مقولة ديكارت "أنا أفكر إذن أنا موجود" أو "أنا أشك فإذن أنا موجود". وقد توصل إلى نتيجة في قوله: "إنني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق". هذا ملخص ما خرج به في الرياضة النفسية بعد التأمل والتدبر، بعد الخلوة مع النفس، بعد التفكير المستقيم. كان من تلاميذ الإمام الغزالي الإمام الحجة صاحب الطريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي لا يذكره الشيخ ابن تيمية إلا ويقول:
"عبد القادر الجيلاني قدس الله ضريحه"، لأن عبد القادر كان رجلاً إماماً كبيراً وما زال إلى الآن. أكثر أتباع الطرق الصوفية تنتمي إلى سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله تعالى عنه. يقول الغزالي في الإحياء: "اعلم أن الدين شطران، أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات". مع هذا الإمام الذي توفي سنة خمسمائة وخمسة عشر، عشنا وسنعيش دائماً. كان شافعياً، كان أشعرياً، كان صوفياً، فرضي الله تعالى عنه. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله