أحمد بن حنبل | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

أحمد بن حنبل | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة - تاريخ التشريع الإسلامي, شخصيات إسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين مع تاريخ التشريع من خلال تراجم الأئمة الأعلام المجتهدين. عبر التاريخ ذكرنا ترجمة للإمام أبي حنيفة وللإمام مالك وللإمام الشافعي واليوم نعيش مع الإمام الورع تمام الأربعة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني وكان مولده رضي الله تعالى عنه وهو الذي تنسب
إليه الحنابلة مذهب الحنبلي نسبة إلى أحمد بن حنبل كان مولده في بغداد وذلك في شهر ربيع الأول سنة مائة أربعة وستين هجرياً، وهي السنة التي مات فيها سفيان الثوري أيضاً، فمات إمام وولد إمام. نشأ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه في بغداد وتربى بها، وكانت بغداد حينئذ هي عاصمة الدولة الإسلامية وحاضرة العالم الإسلامي. توفر فيها العلماء وتوفر فيها التعدد وتوفرت فيها. الكتب وتوفر فيها الفنون المختلفة من مختلف العلوم ولذلك عاش الإمام أحمد في
عصر هو من أزهى عصور الإسلام من ناحية سلطانه، من ناحية حضارته، من ناحية ثقافته. وعاصر الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ثمانية من الخلفاء العباسيين: المهدي، والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل. لقد هيأت له أسرته منذ الصباح أن يكون دارساً لعلوم الدين، وعلى ذلك وكما هو كان النظام في العالم الإسلامي كله، ذهب إلى الكتّاب أو إلى المكتب وهو صغير ليتعلم القرآن ويحفظه ويجوده، وأيضاً انتقل بعد ذلك
إلى إتقان اللغة العربية التي هي مفتاح فهم الكتاب الكريم والسنة النبوية المشرفة عندما بلغ. بدأ الشاب أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه وأرضاه في طلب العلم المنظم أو الطلب العلمي الأكاديمي في الخامسة عشرة من عمره، وأول من طلب العلم عليه كان الإمام أبا يوسف القاضي تلميذ أبي حنيفة، وبعد ذلك بعدما فهم من أبي يوسف وعرف كيف يفهم النصوص ذهب. فتحول ودرس الحديث في مجالس الحديث، كان أهل الحديث منتشرين ورواية الحديث منتشرة، فأخذ
عن علماء العراق والشام والحجاز، ولعله أول محدث قد جمع الأحاديث من كل الأقاليم ودوَّنها في كتابه الضخم الكبير الماتع، وهو مسند الإمام أحمد كما سنرى. الإمام أحمد كان حريصاً على طلب الحديث ولذلك كان. يطلبه في الحضر وفي السفر، أي عالم يأتي إليه في بغداد يلازمه حتى يأخذ منه ويضبط عليه الحديث. وأيضاً عندما يرحل هو إلى الحج مثلاً، فقد ذهب إلى الحج خمس مرات، وهو يذهب إلى مكة وفي الطريق يلتقي مع العلماء والمحدثين ويأخذ عنهم، وفي الحج نفسه كان كذلك وطبعاً. رحلة الحج لم تكن رحلة سريعة كما هي في أيامنا هذه، بل كانت رحلة فيها
أناة. في ثلاث حجات، حج أحمد بن حنبل على رجليه، أي ماشياً. طبعاً هذه تستغرق عدة شهور. جلس أيضاً يتعلم على سفيان بن عيينة وعلى وكيع القاضي وعلى عبد الرحمن بن مهدي وعلى الشافعي وروى. عنه من شيوخه، روى عنه عبد الرزاق بن عبد الرزاق اليماني، وروى عنه الإمام الشافعي، ومن تلامذة الإمام أحمد: البخاري ومسلم وأبو داود، وكان من أصدقائه وأقرانه علي بن المدينة ويحيى بن معين، وسط علمي متكامل. بمناسبة يحيى بن معين، كانت هناك قصة طريفة معه تبين مدى
الجهد الذي بذله أهل الحديث في المحافظة على الحديث وصد أكاذيب القصاص. تقول القصة أن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين صليا مرة في رصافة، مكان هناك في بغداد، فقام قاص. هذا القاص يروي حكايات مثل حكايات ألف ليلة وليلة، فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قال: حدثنا. عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس عن رسول الله يعني أورد سنداً كله جيد، عبد الرزاق هذا إمام ومعمر إمام وقتادة إمام وأنس صحابي. قال رسول الله: "من قال لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة طيراً منقاره من ذهب وريشه من مرجان"، كلام فارغ. ونسبته إلى رسول الله كذب،
وشيء أخذه في قصة يرويها تستغرق عشرين ورقة. فجلس أحمد ينظر إلى يحيى، ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال: "أنت حدثته بهذا؟" فيقول: "والله ما سمعت به إلا الساعة". "وأنت حدثته أيضاً يا أحمد؟" فقال له: "لا". قال: "تعال نرى هذا الغافل الكذاب". فجاء إليه. وقال: "من حدثك بهذا؟" فقال: "أحمد وابن معين". قال: "طيب، أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل، وما سمعنا بهذا الكلام المختلق الكاذب قط قبل ذلك. فإن كان لا بد وأن تكذب، فعلى غيرنا وعلى غير رسول الله، يعني ألم تجد من تنسب إليه الحكايات إلا رسول الله لتكذب عليه؟" عليه فقال: أنتَ
يحيى بن معين؟ قال: نعم. قال: لم أزل أسمع أنّ يحيى بن معين هذا أحمق! شَتَموا! انظر إلى الجرأة! يتجرأ على دين الله! ما علمتُ إلا الساعة، كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما. كتبتُ عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. غيركما، افترض واحدًا اسمه أحمد بن حنبل، وافترض واحدًا اسمه ابن معين، فضحك الإمام أحمد وقال: "شر البرية ما يضحك بلوى كبيرة". كان الإمام أحمد ورعًا تقيًا إمامًا حافظًا، واشتهر بأنه محدث أكثر من اشتهاره بالفقه، إلا أنه كان يعني مذهبه من ألطف المذاهب وأعمقها، وكان لا يكتب إلا القرآن والحديث وكان
لا يفتي في مسألة إلا أن وجد لها من أفتى بها من قبلُ من الصحابة والتابعين، وإذا وجد للصحابة قولين اختار واحداً منهما، فإن لم يترجح عنده قول صحابي على الآخر فترى له قولين، فالإمام نفسه يتحير فيها، فتميز فقهه أنه تشدد شيئاً ما في العبادات ولكن في المعاملات يتميز فقهه بالسهولة والمرونة والصلاح لكل بيئة وعصر ونحتاجه في عصرنا هذا ولذلك فهم الناس أن الحنابلة في شدة وتشدد أبداً هذا فقط هو في التزام وفيه قوة وليس فيه أي عنف كان
الناس من القديم يقولون هل أحمد يا ترى هل هو فقيه أو هل هو محدث فقال الإمام الشافعي في حقه: "خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه من ابن حنبل". وكان أحمد بن حنبل في الحقيقة من تورّع أصحابه الحنابلة عن تولي القضاء والمناصب وكذا إلى آخره. ضاقت أتباعه وضاق مذهبه، وكان له منهج في الاجتهاد لكنه لم يختلف. عن مناهج المجتهدين السابقين فكان يأخذ بكتاب الله ثم بسنة رسول الله وإذا وجد نصاً أفتى به ولم يلتفت إلى ما يخالفه وإذا لم يجد إلا أن
يجتهد فإنه يذهب إلى فتاوى الصحابة وعند اختلافهم كما قلنا فإنه يتخير بينها منهج كان يسير عليه كان أيضاً يعني يتحرى عدم الأخذ إلا بالحديث الصحيح، والضعف عنده غير الضعف القائم في أذهان كثير من الناس الآن، ولذلك فهو كان يأخذ بالحديث الحسن. بعد ذلك الإمام أحمد أيضًا أخذ بالقياس، وله في هذا الشيء الكبير. فكان الإمام أحمد يحترم الخلاف في الرأي ويحترم الآخر، كان يقول فيما يذكره ابن مفلح: "لا ينبغي".
للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم فكان يعترف بتنوع وكان أحمد يختلف في بعض المسائل مع إسحاق بن راهوية ولكن ذلك لم يمنعه من أن يقر له بالفضل والعلم والتقوى وكان يقول لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهوية وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل لم يزل يخالف بعضهم بعضًا. هذا الكلام أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء. كان الإمام أحمد يرى أن الدم ينقض الوضوء، وأي نزيف مثل هذا يكون ناقضًا للوضوء. وكان الإمام مالك يرى أنه لا ينقض، فقد كان عمر بن الخطاب يصلي في جراحاته وهي تنزف دمًا. ولكن حينما قيل له إن كان الإمام خرج، أن كان
إمام الصلاة خرج منه الدم ولم يتوضأ، هل يصلي خلفه؟ قال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب؟ إلى لقاء آخر، أستودعكم الله. مات الإمام أحمد سنة مائتين وواحد وأربعين هجرياً، نفعنا الله به، وإلى لقاء آخر نلتقي. على خير