ابن عباس | ج1 | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين، نتحدث فيها عن تاريخ تشريع الإسلام. لقد تحدثنا قبل ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل الفقيه العالم القارئ المحدث، وكان عبد الله يميل إلى الالتزام وإلى شيء من التمسك الشديد. واليوم نتحدث عن الطرف الآخر، عن
واحد من العبادلة الفقهاء أيضاً ممن دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم فقهه في الدين". وعلمه تأويل فكان هو الصحابي عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان يُكنى أبا العباس بابنه الكبير. عبد الله بن العباس سمى ابنه على اسم أبيه العباس، فأصبح ابنه العباس بن عبد الله بن العباس، فكانوا يقولون لعبد الله: يا أبا العباس، ليس بأبيه. وإنما بأكبر ولده من بعده عبد الله بن عباس، أمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية. لبابة
الكبرى هذه لها أخت اسمها لبابة أيضاً. كان العرب يفعلون هكذا، يُسمُّون هذه لبابة الكبرى، وهذه لبابة بعدها الوسطى، وهذه لبابة بعدها الصغرى. هكذا يُسمُّون ثلاثةً أو أربعةً باسم واحد، فمن ضمن لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزم الهلالي، ولبابة الصغرى أم خالد بن الوليد، لذا فإن عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد أبناء خالة. كان عبد الله بن عباس يُسمى بالبحر لِسَعةِ علمه، ويُسمى بحَبر الأمة. وكلمة "حَبر" هذه في اللغة العربية يمكن أن نقولها "حَبر"، والحَبر معناها أنه عالِم الحَبْر في الكتابة الكثيرة. وُلِدَ سيدنا عبد الله بن عباس في مكة أثناء الحصار
الذي فرضه المشركون على النبي في الشِّعْب. فالنبي صلى الله عليه وسلم حَنَّكَه بريقه الشريف وقال: "اللهم فَقِّهْه في الدين وعَلِّمْه التأويل"، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات. فعندما انتقل النبي كان عبد الله بن عباس... كان عمره ثلاثة عشر عاماً لكنه كان فتىً نابغاً، وكان جميلاً أبيض اللون مشرباً بصفرة، وكان جسيماً وسيماً صبيح الوجه. فعبد الله بن عباس فاق الناس بخصال كثيرة: بعلمٍ ما سبقه إليه أحد، وبفقهٍ فيما احتيج إليه من رأيه، وبحلمٍ ونسب. ويقول عنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. ما رأيتُ أحداً كان أعلمَ
بما سبقه من حديثِ رسولِ اللهِ من ابنِ عباسٍ، ولا بقضاءِ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ من ابنِ عباسٍ، ولا أفقهَ في رأيٍ من ابنِ عباسٍ، ولا أعلمَ بشعرٍ ولا عربيةٍ ولا بتفسيرِ القرآنِ ولا بحسابٍ ولا بفريضةٍ منه، ولا رأيتُ أثقبَ رأياً فيما احتيجَ إليه. منه ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً لا يذكر فيه إلا التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر. يعني إنه لم يكن يحفظ بيتاً أو بيتين فقط، لا، ويوماً أيام العرب. وما رأيت عالماً قد جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قد سأله إلا وجد عنده هذا نسميه الموسوعة لأنه يعرف كل شيء ويستعين بالعلوم المساعدة، لا
يغيب عنه شيء أبداً. روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وفي البخاري عن ابن عباس: "سمعت رسول الله"، "كنت مع رسول الله"، "رأيت رسول الله" في أكثر من مائة حديث وهو... وأكثر بعض الناس يقول لم يسمع ابن عباس إلا أربعة أحاديث من رسول الله، فأنا أمسكت البخاري وتتبعت ما فيه من ابن عباس "رأيته"، "سمعته"، "كنت معه"، "أمسكني النبي" وكذا إلى آخره. المجلد الأول رأيت فيه ستين حديثًا عن ابن عباس في هذا المعنى، ولكنه يروي أيضًا عن الصحابة. عمر وعلي ومعاذ وأبي ذر وغيرهم، إذا هو روى عن النبي مباشرة وروى عن الصحابة الكرام. روى عنه أيضاً عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبو طفيل وأبو
أمامة بن سهل بن حنيف وأخوه كثير بن عباس، وروى عنه مواليه الأئمة عكرمة ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وابن. أبي مليكة وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين السجاد علي زين العابدين رضي الله تعالى عنهم جميعاً، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كنت خلف رسول الله يوماً فقال: "يا غلام إني..." أُعَلِّمُكَ كلماتٍ: احفظِ اللهَ يَحفظْكَ، احفظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوكَ بشيءٍ
لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كَتَبَهُ اللهُ لكَ، ولو اجتمعوا على أن يضروكَ بشيءٍ لم يضروكَ إلا بشيءٍ قد كَتَبَهُ اللهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ. وجدتُ صحائفَ المسند الخاص به في مسند أحمد بن حنبل، وفيه ألف وستمائة وستون حديثاً، وله في البخاري ومسلم معاً خمسة وسبعون حديثاً، وله في البخاري مائة وعشرون حديثاً. إذاً ابن عباس في الحقيقة عالمٌ كبيرٌ وراوٍ كبيرٌ وفقيهٌ كبير، وكانت الصحابة تقدره. كان عمر بن الخطاب يحبه ويُدنيه إليه مجلسه ويشاوره بالرغم من صغر سنّه مع أجلّة الصحابة، يعني هذا اهتمام التشريع بالشباب عندما يكون الشاب عالماً. ينبغي أن لا أمنع الشباب من أن
يدخلوا ويكونوا شركاء في القرار وشركاء في البناء بشرط العلم. كان عمر يقول: ابن عباس فتى الكهول، أي هو الشاب الذي يتفوق على كل هؤلاء له لسانٌ قؤول وله قلبٌ عقول، هذه الصفات التي تجعل الشاب يتصدر. العلم ثم العلم ثم العلم، بعد ذلك تأتي وتتولد من هذا العلم الحكمة. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عمر سأل أصحاب رسول الله عن شيء، قال: فسألني فأخبرته، فقال: أعييتموني أن تأتوا بمثل ما أتى. به هذا الغلام الذي لم يجتمع شؤون رأسه يعني أنه لا يزال لم يشِب ولم يتغير شيء في شعره، لكنكم أنتم
قد شبتم. إذا كان يحب عبد الله بن عباس لنباهته ولعلمه ولحكمته. قال سيدنا عبد الله بن عباس: كان عمر يُدخلني مع الشيوخ أهل بدر، فكأن بعضهم وجد في فقال: لماذا تُدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم وإنه ممن علمتم. فدعاه ذات يوم فأدخله معهم على العادة. قال عبد الله: فما رأيت أنه دعاني يومها إلا ليريهم، لكي يُظهر لهم من هو عبد الله بن عباس. قال: ما تقولون في قول الله عز وجل جاءَ نصرُ اللهِ والفتحُ، فقالَ بعضُهم: أُمِرنا بأن نحمدَ اللهَ سبحانَه وتعالى ونستغفرَه إذا نصرَنا
وفتحَ علينا. يعني يقولُ معنى اللفظِ للآيةِ. وسكتَ بعضُهم فلم يقلْ شيئاً. فقالَ لي: أكذاك تقولُ يا ابنَ عباس؟ قلتُ: لا. قالَ: فما تقول؟ قلتُ: هو أجلُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أعلمَه إياه. جاءَ نصرُ اللهِ والفتحُ فذلك علامةُ أجلِكَ، فسبِّحْ بحمدِ ربِّكَ واستغفرهُ إنه كان تواباً، فقال عمرُ: ما أعلمُ منها إلا ما تقولُ، يعني أيَّدَهُ تماماً. وعن الشعبي قال: ركب زيدُ بنُ ثابتٍ، فدنا عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ ليأخذَ بركابِهِ، فقال: لا تفعلْ يا ابنَ عمِّ رسولِ اللهِ، فقال: هكذا أُمِرْنا. أن نتعامل مع علمائنا بأدب راقٍ. فقال زيد: "أرني يدك"، فأخرج يده فقبَّلها زيد. تقبيل يد العلماء جائز، ثم قال: "هكذا
أُمِرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم". في حلقة أخرى نذكر بعض اجتهادات ابن عباس، وكانوا يقولون: "دع عنك تشددات ابن مسعود ورُخَص ابن عباس هذا من صحابة رسول الله وهذا من صحابة رسول الله وكلاهما على حال. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.