ابن عباس | ج2 | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين. تاريخ التشريع، الصحابة الكرام من المجتهدين العظام، تكلمنا عن عبد الله بن مسعود ثم تكلمنا عن عبد الله بن عباس، عبد الله بن عباس أبو العباس رضي الله تعالى عنه دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". وبدون شك
استجاب الله سبحانه وتعالى لنبينا الكريم فعلَّم ابن عباس، علمه الفقه والعلوم التي تساعد. على الفهم وعلى الإدراك العميق وعلى الاجتهاد وعلى معرفة أحكام الله، فكان آية من آيات الله سبحانه وتعالى في التفسير، وكان عالماً باللغة العربية وبأشعار العرب، والشعر ديوان العرب، يعني هو المصدر الأساسي الذي استقينا منه دلالات الألفاظ، والذي استقينا منه النحو، والذي استقينا منه المعاني، والذي استقينا منه المفاهيم. المختلفة بالإضافة إلى وصف أحوال العرب. كان ابن عباس قوياً
جداً في حفظ أشعار العرب، كان مفتوحاً عليه ومنفوحاً من عند الله سبحانه وتعالى بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان لغوياً شاعراً متمكناً من الفقه، من التفسير، من الحديث. ولذلك ذكرنا أن ابن عباس روى كما في مسند. الإمام أحمد روى أكثر من مائة وستين ألفاً وست مائة وستين حديثاً عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من المكثرين من الرواية، وأن البخاري ومسلم معاً أخرجا نحو خمسة وسبعين حديثاً، وأن البخاري وحده أخرج نحو مائة وعشرين حديثاً لابن عباس. ابن عباس الفقيه، كيف كان يفكر
كان وكيف كان الفقه أيام الصحابة؟ كيف كان؟ نأخذ مشهدين عن ابن عباس. مرةً اختلف ابن عباس مع سيدنا عمر بن الخطاب. كان ابن عباس صغيراً في السن، وكان عمر يحبه، وكان يُدخله عليه مع قريش. كانت عند ابن عباس مهابة من سيدنا عمر، وكان يقول: كان رجلاً مهيباً الذي سيدنا عمر كانوا يهابونه، كان طوله حوالي ثلاثة متر وشيء، وكان جسيم الجثة، فالذي يراه هكذا يهابه ويخاف منه. وكان عالماً وتقياً وجهوري الصوت، صوته كان فيه قوة وشدة. فكل ذلك لأنني واثق من علمي فلا أخاف منه بالرغم
من أنه كان رجلاً مهيباً، فاختلف ابن عباس مع... سيدنا عمر بن الخطاب في مسألة عدة المرأة التي توفي عنها زوجها وهي حامل، ماذا سنفعل الآن؟ الآن، أمامي نصان وكل نص يمكن أن أفهمه بطريقة معينة. المرأة التي مات زوجها يجب أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام وهي عدة الوفاة. لكن هذه المرأة حامل، والله سبحانه وتعالى يعني عندما تلد تنتهي العدة. حسنًا، هنا سنسير على أي وضع؟ على الأربعة أشهر وعشرة أيام أم على وضع الحامل؟ من سنغلّب على من؟ امرأة جمعت بين
الحالتين، هي حامل وحامل مثلاً في شهرها الثامن، أي بقي لها شهر، أو دعنا نقول إنها في شهرها الثامن وهي حامل أيضًا في غداً زوجها مات اليوم، تجلس أربعة أشهر وعشرة أيام ولا تكون قد أنهت العدة. يوم واحد تمشي في أي مثال؟ العقل الآن مع وجود النصوص يقول أن هناك ثلاثة حلول: إما أن تضع الحمل وتنهي العدة، هذا رأي، وإما أنها يجب أن تنتظر أربعة أشهر وعشرة أيام، هذا رأي آخر. ثانياً وأما أن يكون أبعد الأجلين يعني لو كانت هي في شهرها الأول فتبقى لمدة تسعة أشهر حتى تضع الحمل، وبالمناسبة هي
قضت خلال التسعة أشهر الأربعة أشهر وعشرة أيام، إذا كانت ستلد غداً أو الشهر القادم، فلا، يجب أن تبقى الأربعة أشهر وعشرة أيام. أبعد الأجلين هو المقصود. هذه الاحتمالات الثلاثة لعقلية جمهور الفقهاء أن عدة المرأة تنتهي بوضع حملها، معتمدين في ذلك على حديث أم سلمة قالت: قُتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حامل، فهذه هي الحالة التي معنا. سبيعة الأسلمية كانت حاملاً ومات زوجها، مات زوجها إذ قُتل، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فها هي. ما الوضع الذي حدث بعد أربعين ليلة من
وفاة زوجها شهيداً أو قتيلاً؟ هذا قتل، كان قتلاً، فتقدم لها خطيبها وعرض عليها قائلاً: "أنتِ الآن وضعتِ ما في بطنك وانتهى الأمر بسلام، أنا أريد أن أخطبك، أنا أريد أن أتزوجك". فزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو... السنابل فيمن خطبها في عدة أشخاص تقدموا لسبيعة الإسلامية: "نحن نريد أن نتزوجك". حسناً، من بينهم كان شخص يُدعى أبو السنابل. والنبي عليه الصلاة والسلام عندما مضت الأربعون يوماً ووضعت حملها، اعتبر أن عدتها قد انتهت. وبناءً على ذلك، قال ابن عباس: "لا، أنا لن أختار هذا الحل". لا تختر أي قال عدتها بأبعد
الأجلين، فيجب أن تختار الحل رقم ثلاثة الذي ذكرناه، أي أيهما كان أبعد وضع الحمل أو مضي أربعة أشهر، فنأخذ به. انظر كيف كان ابن عباس واقفاً عند سنة رسول الله، أما الناس الذين الآن يقولون إن السنة ليست حجة ويريدون التشكيك فيها. عندما عُرض على ابن عباس حديث سبيعة الأسلمية رجع إليه، فقالوا له: "انتبه، هناك حديث يقول كذا". فقال: "حسناً، هذا نوع من أنواع الاجتهاد لأنني لم أكن أعرف هذا الحديث، فوجدت أن الله يجعل العدة آخر الحمل، نعم، وهذا لا غبار عليه للمطلقة، ويجعل أربعة أشهر وعشرة أيام". نعم، ليس عليه حرج، ذلك هو الوفاة، فقلت احتياطاً، والاحتياط هنا واجب، نجعلها بعد
الأجلين. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم لسبيعة، وخطبت بعد أربعين يوماً من مقتل زوجها، فأباحها. هذا خلاص، انتهينا. ما دام النبي عليه الصلاة والسلام قال هكذا، فأنا أقف عند هذا. قضية ثانية أيضاً، يتبين لنا كيف كانوا يجتهدون، وكيف كانوا يرجعون عن الاجتهاد، وكيف كانوا يختلفون في أدب جَمٍّ. مشهد آخر عندما اختلف ابن عباس مع السيدة عائشة أم المؤمنين في مسألة رؤية النبي لربه في ليلة الإسراء والمعراج. سُئل ابن عباس: "هل رأى محمد ربه؟" فقال: "نعم" هكذا مباشرة على فكرة. هو
ابن عباس فيما يرويه عنه عطاء كان يقصد أنه رآه بقلبه لقوله تعالى "ما كذب الفؤاد ما رأى" يعني الفؤاد هو الذي رآه لأن الله منزّه عن الأكوان وعن انعكاس الأضواء وعن رؤية الحدقة "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" فهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وكان ابن عباس يقول إنَّ الله اختص موسى بالكلام وإبراهيم بالخُلَّة ومحمداً بالرؤية، والرؤية هنا هي رؤية قلبية: "ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى". السيدة عائشة ذهبت مذهباً آخر، قالت: "لا، هذه الآية أنا أفهمها أنه رأى جبريل نزلة أخرى، الذي رآه
وتيقن في فؤاده هو..." رؤية جبريل، لماذا يا سيدة عائشة تذهبين هكذا؟ قالت: قال تعالى "لا تدركه الأبصار"، فليس من الممكن أن يراه بالعين. حسناً، حتى الآن قد يراه بالقلب، لا بأس، من الممكن أن نجد الخلاف في النهاية لفظي. قالت: "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو". من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء. إذاً أنا أرى أنه وراء جبريل في هذا الموضع، فيأتي العلماء ويقولون: والله ليس هناك تناقض بين كلام ابن عباس وبين كلام السيدة عائشة، فابن عباس يثبت الرؤية القلبية وعائشة تنفي الرؤية البصرية، فربنا لا يُرى
بالعيون "لا تدركه الأبصار". الأبصار وهو يدرك الأبصار إذا لم يكن هناك خلاف حقيقي، فالخلاف في البداية قد يكون ظاهرياً هكذا، أن شخصاً يقول: أثبت الرؤية، والآخر يقول: انفِ الرؤية، نعم، كان هناك خلاف، لكن عندما نتأمل ونرى أن مسألة الرؤية هذه هنا، عندما أثبتها، ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أثبتها. للفؤاد. وعندما نفتها - رضي الله تعالى عنها - عن البصر، نجد أن هذا الخلاف نسميه خلافاً لفظياً، لأنه لو اطلع كل واحد منهم على حقيقة ما قال الآخر لما نفاه ولا صدقه، لأن توارد الرأيين هذين جاء على أمرين مختلفين. أو أن الصحابة كانت تفكر هكذا، وكانت تعيش
هكذا، مع النصوص هكذا سيدنا ابن عباس رضي الله تعالى عنه توفي سنة ثمان وستين من الهجرة، أي بعد النبي بثمانية وخمسين سنة، وتوفي وعمره سبعون سنة، توفي بالطائف. وروى ميمون بن مهران قال: حضرت جنازة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف، فلما وُضِع للصلاة جاء طير أبيض. حتى وقع على أكفانه ثم دخل فيه، يعني بشرى هكذا، بشرى من عند الله سبحانه وتعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي". إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.