الإمام ابن أبي ليلي | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

الإمام ابن أبي ليلي | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة - تاريخ التشريع الإسلامي, شخصيات إسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين مع تاريخ التشريع الإسلامي من خلال تراجم علمائه الأفاضل. أهل الذكر المجتهدين واليوم نعيش هذه الدقائق مع واحد من كبار أتباع التابعين وهو الإمام ابن أبي ليلى، هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، قاضي الكوفة وفقيهها. وُلِدَ في سنة أربع وسبعين من الهجرة،
أي في القرن الأول، وكان أبوه عبد الرحمن قد وُلِدَ في خلافة عمر، من التابعين عبد الرحمن، أما ابنه محمد بن أبي ليلى فهو من أتباع التابعين. أبوه كان من العلماء أيضاً وروى عن جمعٍ من الصحابة، وأخذ الفقه على عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، لكنه توفي ومحمد كان صغيراً، فلم يتلقَّ عن أبيه وإنما أخذ عن أخيه عيسى تلقى. العلم أيضاً عن الشعبي ونافع العمري وعطاء بن أبي رباح والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وجملة من العلماء الكبار في هذا العصر.
حدَّث عنه أيضاً شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، وسفيان بن عيينة المجتهد الكبير، وسفيان الثوري المجتهد الكبير صاحب المذهب، وقيس بن الربيع. وحَمَّس الزيات وهو صاحب القراءة، أحد القراءات المتواترة، قرأ عليه حمزة فكان يقول: "إننا تعلمنا جودة القراءة عند ابن أبي ليلى"، بالرغم أن ابن أبي ليلى فقيه ولم يكن مقرئاً، ولكن شخص بمقام ومكانة حمزة الزيات، حمزة الزيات يقول عنه هذا الكلام أنه ما تعلم القراءة إلا من ابن أبي. ليلى فكانت كل العلوم، أي سوياً مع بعضها البعض.
أول من استقضى ابن أبي ليلى على الكوفة الأمير يوسف بن عمر الثقفي عامل بني أمية في هذه المنطقة. كان القاضي أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة يقول: "ما ولي القضاء أحد أفقه في دين الله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أقول". حقاً بالله ولا أعف عن الأموال من ابن أبي ليلى. طبعاً نعرف أن أبا يوسف القاضي تولى القضاء، ولذلك فهو خبير وعالم بمن الذي يكون في هذه القامة والمقام. ولي قضاء الكوفة للخليفة أبي جعفر المنصور، واستمر ابن أبي ليلى قاضياً ثلاثاً وثلاثين سنة
لأنه تولى القضاء سنة مائة وخمسة. عشر وهو في نحو الأربعين من عمره. لم يكن ابن أبي ليلى فقيهاً فقط، بل كان أيضاً محدثاً. قال الإمام العجلي: "كان فقيهاً صاحب سنة، صدوقاً، جائز الحديث"، يعني كان يروي الحديث، وكان قارئاً للقرآن كما قال حمزة، عالماً به. قرأ عليه حمزة الزيات، فكان يقول: "إنا تعلمنا جودة القراءة". عند ابن أبي ابن أبي ليلى كان ابن أبي ليلى من مدرسة الرأي قبل الإمام أبي حنيفة. أبو حنيفة هو شيخ أهل الرأي، لكن ابن أبي ليلى كان أيضاً صاحب رأي، بل كان شيخاً لأبي حنيفة وأبي يوسف. أي أن أبا حنيفة درس عنده أو أخذ
عنه، وكان بينه... وبين أبي حنيفة مواقف ومشاحنات كما يحدث بين الأستاذ والتلميذ، لأن الأستاذ وهو يتحدث مع تلميذه في بعض الأحيان يكون التلميذ أعلى وأرفع من الأستاذ. ومن أشهر ما رُوي في هذا، وهذا يُبيّن لنا أن هؤلاء الناس لا يعرفون في الحق لوماً، وأيضاً يتبعون الحق أينما كان. ولا يغرنهم أن هذا كان شيخه أو كذا إلى آخره مع مزيد الاحترام. ابن أبي ليلى أفتى بأن يقام حد على امرأة مجنونة، أفتى بأن يقام حدان في مجلس واحد في المسجد. امرأة مجنونة أخطأت أو يعني
فعلت ذنباً فأقام عليها حدين وفي مجلس واحد وضربها في المسجد كانت. جريمة هذه المرأة أنها شتمت وقذفت والدي رجل كان ما يزال على قيد الحياة، يعني الرجل أمامها، فذهبت تسب أباه وتسب أمه، وهي مجنونة مسكينة. فابن أبي ليلى أقام أولاً حدين، ثانياً في المسجد، ثالثاً على هذه المرأة، رابعاً لأنها قذفت وسبت شخصين على قيد الحياة، والرجل ذهب فاشتكى. عند القاضي ابن أبي ليلى، هذا الكلام لم يُعجب سيدنا أبا حنيفة، فقال: "أخطأ في مواضع".
انظر لماذا صار لأبي حنيفة مذهب، ولماذا أصبح أبو حنيفة إماماً؟ لأنه كان ذكياً جداً، والناس عيال في الفقه مقارنةً بأبي حنيفة، لأن عقله كان يعمل وحاداً في هذا المجال، فقال: "أخطأ في مواضع". الله أخطأ في ماذا إذاً؟ أأقام عليها حداً لأبوي وهما على قيد الحياة؟ وهما الخاص. الرجل هذا ليس خاصاً. الذي قدم الدعوى ليس له صفة. حسناً، وهذا يختلف في ماذا عندما يأتي أبوه وأمه عند القاضي ليعفوا ويصفحوا عن هذا ويقولوا: لا، نحن متنازلون، لكن كون أن... ابنهم هو الذي يرفع الدعوى وتقبلها حضرة القاضي. هذه هي الغلطة رقم اثنين. أقام حدين في مكان واحد،
ولكن الشريعة تقول إننا كنا نقيم حداً اليوم، وبعد ذلك غداً نقيم حداً آخر، فلا بد أن نفصل بين الحدين. رقم ثلاثة: أقام حدين، والقاذف لو قذف قوماً كثيرين فعليه حد واحد. افترض أن شخصًا وقف وشتم ناس كثيرين، مئة شخص، فيكون قد قذفهم جميعًا. فهل نحسب مئة ونقيم عليه مئة حد؟ أم نقيم عليه بسبب قلة أدبه وقذفه حدًا واحدًا؟ أما النقطة الرابعة، فإن الحد يُقام عليها وهي واقفة، أي أن المرأة تكون واقفة هكذا. لا، كان يجب أن تستلقي حتى يُطبق عليه الحد وهو واقف، لكن المرأة تُجلد وهي مستلقية. النقطة الخامسة
أنه أقام الحد عليها وهي مجنونة، وأصلاً ليست مكلفة شرعاً، وكان ينبغي أن يعفو عنها. النقطة السادسة أنه ضربها في المسجد، والحدود لا تُقام في المساجد. فانظر إلى كيفية نظر العلماء المجتهدين، فابن أبي ليلى له وجهة نظر، الإمام بن أبي حنيفة له وجهة أخرى. وجهة نظر ابن أبي ليلى أن الجنون غير ثابت عنده، لأن الجنون هو عدم إدراك الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وهذه السيدة مدركة. النقطة الثانية أنه يرى أن هذا الابن وكيل عن أبويه، يعني هم الذين دفعوه إلى ذلك، فلعله ثبت عنده الوكالة رقم... ثلاثة أنه رأى أن الحدّين يمكن فصلهما فصلًا بسيطًا وليس فصلًا كبيرًا بينهما، لكن
قد لا يراه لأن هذا حديث واضح أنه لا تُقام الحدود في المساجد. ولذلك في قضية أنْ، وأيضًا قضية أنها ضُربت واقفة، لا نعرف علة ذلك. وهكذا كانت تجري وجهات النظر المختلفة ما بين المدارس المختلفة. ولذلك اهتم الناس كثيراً بفقه ابن أبي ليلى وكان له مكانة حتى أن ابن النديم في الفهرس يذكر أنه ألف كتاباً في الميراث ولكن فُقِد. يقول ابن النديم: "أنا لم أره". وقد جمع فقه ابن أبي ليلى القاضي أبو يوسف، إذ كان أبو يوسف معجباً جداً بابن أبي ليلى لكنه يقلد ويتتلمذ على أبي حنيفة، فجمع مسائل ابن أبي ليلى التي اختلف فيها رأي أستاذه أبي حنيفة معه.
يعني أن أبا حنيفة وابن أبي ليلى اختلفا، فذهب محمد وجمع، أبو يوسف هذه الأشياء أيضاً. من تلمذة محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة الشافعي في كتابه الأم. يَروي عن محمد بن الحسن مثل هذه المسائل التي اختلف فيها ابن أبي ليلى مع أبي حنيفة وعلّق على كل مسألة برأيه الخاص، فمن الممكن في بعض المسائل أن نجد ثلاثة أقوال: قول ابن أبي ليلى، وقول أبي حنيفة، وقول الإمام الشافعي. وقد روى هذه المسائل أيضاً الإمام السرخسي في أتتصورون أن كتاب "المبسوط" هذا المكوّن من
ثلاثين جزءاً أملاها السرخسي من ذاكرته وهو محبوس في بئر حبسه الوالي أو الحاكم، فكان تلاميذه يأتون إلى أعلى البئر ويملي عليهم. فكل الأجزاء الثلاثين هذه أو أغلبها - لأنه في موضع ما فرّج الله عنه - هي من إملاء الإمام السرخسي، وكذلك أبي ليلى وغيره من الأئمة نجدها أنها موجودة في كتب مثل كتاب المغني لابن قدامة، مثل كتاب المحلى لابن حزم، نجدها في بداية المجتهد لابن رشد، ونجدها أيضًا مروية في مصنف عبد الرزاق، ومروية في مصنف ابن أبي شيبة، وهكذا. ابن أبي ليلى الحقيقة أنه كان صاحب منهج في الاجتهاد: والإمام الشاطبي
في كتاب الموافقات يروي قصة تكشف تميز منهج كل إمام في الاجتهاد، وكيف كان الأئمة يختلفون، وكيف كانوا يحبون بعضهم بعضاً، ويستمع بعضهم لبعض. يروي عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: وجدت في كتاب جدي القصة الآتية: قدمت مكة فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى. وابن شبرمة، ابن شبرمة هذا من العلماء المجتهدين الكبار الذين في الساعات ونحن ندرس أحوال الشركات والأموال والبنوك وما إلى ذلك، نرجع إلى رأي ابن شبرمة هذا، لماذا؟ لأنه كان مجتهداً وكان مع هذه الفرقة من أصحاب الرأي أبو حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، كانوا في مكة فأتيت أبا له ما تقول في رجل باع بيعاً واشترط
شرطين، يعني قال له: خذ، أنا سأبيعك هذه الثلاجة بشرط أن أستخدمها لمدة سنة. قال: البيع باطل والشرط باطل. فأتيت ابن أبي ليلى فقال: البيع جائز والشرط باطل. وأتيت ابن شبرمة فقال: البيع جائز والشرط جائز. يبقى عندنا ثلاثة مذاهب في... مسألة واحدة فقلت سبحان الله، ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة، هم لا يعملون في شيء غيرنا. لا، هذه ساعة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما، فقال: "لا أدري ما قالا، أنا لا أعرف، ما أتيت به إنما هو عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده". أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط وهذا حديث بعد ذلك رواه الطبراني في معجمه الأوسط، فلما استوعب أبو حنيفة هذا
النهي من رسول الله فهم منه أن البيع باطل والشرط باطل، فأخبرته بقولهما فقال: لا أدري ما قال، أنا لست مستغربًا من هؤلاء الناس. حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عروة بن الزبير يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشتري بريرة". بريرة هذه كانت أَمَة وأرادت عائشة أن تشتريها من أجل أن تعتقها. "اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء". كان أهلها يقولون: "لن نبيعها لك إلا مع شرط الولاء". فإن الولاء. لمن أعتق فأجاز البيع وأبطل الشرط، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته، فقال: لا أدري. عن جابر بن عبد الله قال: اشترى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فاشترطت
عليه أن يحملني، يعني أنها تحملني، فأجاز البيع والشرط. هكذا كان الأئمة يختلفون، وهكذا جاءت نصوص الشريعة واسعة حتى تفي بالغرض. وتوفي ابن أبي ليلى عام مائة وثمانية وأربعين، فرحمه الله. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.