الإمام الأوزاعي | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

أيها الإخوة المشاهدون أيتها الأخوات المشاهدات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجال الطيبين مع ذكر طيبين في تاريخ التشريع. ذكرنا الصحابة وذكرنا التابعين ونحن الآن في دور أتباع التابعين أحفاد الصحابة، الأئمة الذين درسوا الفقه واجتهدوا وعلموا المسلمين، منهم الإمام الأوزاعي كان... من كبار أتباع التابعين وكان اسمه أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وُلِدَ بمدينة بعلبك وهي من مدن الشام أو من مدن لبنان
الآن، سنة ثمان وثمانين من الهجرة. يعني كان مولده في حياة الصحابة، لكنه لم يلقَ الصحابة، إنما التقى بعد ذلك بالتابعين، فأصبح من أتباع التابعين. أوزاع هذه بطن من همدان، ولذلك كان الأوزاع يُعدّ عربياً. وكان ثقة الإمام البخاري، وهذا أمر غريب. كان يقول: "لا، لم يكن من الأوزاع. الأوزاعي سُمّي أوزاعياً لأنه نزل فيهم"، يعني لم يكن منهم أنفسهم. لم يكن عربياً، إنما مرّ بهم ونزل فيهم، فنُسب إلى أوزاع. إذاً الأوزاعي أما
أن... يكون عربياً أو غير عربي ولكن القضية هي أنه كان من كبار العلماء. نشأ الأوزاعي يتيماً فقيراً عند أمه، ربته أمه لأن أباه مات. وعندما يموت الرجل في عالم الإنسان فإننا نسمي الولد يتيماً، وعندما تموت الأم في عالم الحيوان نسمي الحيوان يتيماً، يعني كلمة يتيم تختلف من الإنسان. إلى الحيوان، فكان الأوزاعي يتيماً، يعني أن أباه مات، ولذلك نقول دائماً، فتربَّى عند أمه، وكانت أمه تحتاج إلى الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ سعياً وراء الرزق، فكيف بلغ الأوزاعي هذه المكانة في الأدب والعلم؟ إنه فضل الله، وكان بعضهم يقول:
عجزت الملوك أن تؤدب نفسها وأولادها أدب. الأوزاعي في نفسه كان رجلاً مؤدباً جداً وكان عالماً متبحراً، لم تُسمع منه كلمة قط زائدة، فقد كان يتحدث بميزان ويتكلم بحساب. كان الأوزاعي ليس طويلاً ولا قصيراً، يعني فوق الربعة، وهذا يعني أنه كان بطول نحو مائة وثمانين سنتيمتراً، وكان خفيف الجسم وليس سميناً. وكذلك كان ذا سمرة، وكان يخضب لحيته وشعره بالحناء. تميز الأوزاعي بأنه كان إماماً كبيراً في
الحديث تلقياً وأداءً حتى قال عنه عبد الرحمن بن مهدي: "الأئمة في الحديث أربعة، هؤلاء أركان الحديث: الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري وحماد بن زيد". روى الأوزاعي، ولذلك تجد اسمه موجوداً في البخاري وفي مسلم. وفي رمزي وكذا إلى آخره مرة الأوزاعي حج فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، يعني سفيان الثوري الإمام الكبير الذي تحدثنا عنه يجر الجمل الذي عليه الأوزاعي، ومالك بن أنس يسوق به، مالك وراءه وسفيان الثوري أمامه، والثوري يقول: افسحوا للشيخ. ما
هذا؟ هذا الكلام يبين لنا عظمة ومكانة. اعترف الأوزاعي بها، واعترف بها مالك لأجل أن يسوق الجمل، أي أن هذا يخدمه. اعترف بها الإمام سفيان الثوري، وهذا يجرون به الجمل، أي يخدمه، حتى أجلساه عند الكعبة وجلسا بين يديه يأخذان عنه. إذن هذا الأوزاعي قصة كبيرة جداً. الأوزاعي على فكرة، هو مدفون الآن في ضواحي بيروت في لله، لقد زرت ضريحه وقبره في العاصمة اللبنانية. الأوزاعي حدّث عن تابعين كثيرين، عن عطاء بن أبي رباح، وعن سيدنا الباقر، وعن عمرو بن شعيب، وعن الإمام مكحول، وعن نافع
مولى ابن عمر، أي أنه رأى تابعين كثيرين جداً. وكذلك روى عنه أناس كثيرون مثل ابن شهاب الزهري، وشعبة، والثوري، وابن المبارك وكثير من العلماء الكبار، وبالرغم من أن الأوزاعي كان ملتزماً بالحديث، إلا أنه كان أيضاً عالماً فقيهاً من الأئمة المجتهدين أصحاب الرأي. ويقول عنه ابن قتيبة أنه كان من أصحاب الرأي، وهذا أمر غريب، فهو يمتلك الحديث وكل شيء، لكنه أيضاً من أصحاب الرأي، وكان مكثراً من. المسائل الفقهية حتى أفتى في حياته في سبعين ألف مسألة فقهية. كان الأوزاعي بإجماع المؤرخين إمام أهل الشام، وهو مولود في بعلبك ومدفون في
بيروت، فهذه المنطقة كلها كان اسمها الشام قبل هذا التقسيم الخاص بسايكس بيكو. فظل أهل الشام يعملون بمذهب الأوزاعي الفقهي أكثر من مائة. مائتان وعشرون سنة، انظر كيف مائتان وعشرون سنة والناس كانت تقلد شيئاً اسمه مذهب الأوزاعي. نحن اليوم لدينا ثمانية مذاهب مشهورة: الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة والجعفرية والزيدية والظاهرية والإباضية. الأوزاعي لم نعد نسمع عنه، لكن قبل مائتين وعشرين سنة كان أهل الشام إذا سألت أحدهم: أنت تتبع أي مذهب؟ يقول الأوزاعي إلى أن غلب عليهم مذهب الشافعي، كذلك مذهب الأوزاعي انتشر بشكل ما في الأندلس حتى غلب
عليها المالكية. كان الأوزاعي يقول: "إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، فإياك أن تقول بغيره، لأنه هو الحجة، المصطفى المختار، فإنه كان مبلغًا عن الله سبحانه وتعالى". وكان الأوزاعي يعتمد الأحاديث المرسلة. ومرسلة هذه ما معناها؟ أن التابع يقول: قال رسول الله، وليس فيها ذكر الصحابي. لا بد أن يكون فيها صحابي لكنه سقط. فالشافعي له وجهة نظر في هذه المسألة، لكن الأوزاعي كان يرى أنه لا بأس بذلك، لأن التابعين أولئك أناس عظام وأئمة وما إلى لكم مثلاً بعض الخلافات
البسيطة، مثل هل المرأة عندما تحضر الحرب تأخذ من الغنيمة أم لا تأخذ من الغنيمة، فكان الأوزاعي يرى أن المرأة تأخذ من الغنيمة. هذه الأمور مفيدة جداً في عرض الإسلام الآن، لأن الإمام الأوزاعي المجتهد، شيخ مالك والشيخ سفيان الثوري، وسابق الشافعي بكثير. يرى في هذا العصر كذلك الإمام الشافعي ما لا يُرى هكذا، إذ يقول: إن النساء لسن من أهل القتال، ولذلك لا يأخذن في السهم. وعندما نجد اليوم السيدات يشتركن في القتال في بعض جيوش العالم، فإننا نرجع إلى كلام الأوزاعي. والأوزاعي استند إلى ماذا؟ استند إلى حديث عن أم زياد الله صلى الله عليه
وسلم في غزوة خيبر سادس ست نسوة كانت ست نساء فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال مع من خرجتن وبإذن من خرجتن؟ أنتن متعينات في الجيش الآن وأنا ليس عندي قبر، فقالت يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر. ونعين به في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى يعني سنعمل في الخدمات المساعدة، فقال: قمنا طيباً، لكن تعطوني خبراً، فهذه قيادة الجيش لازم تعرف كل شيء، حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، وكان تمراً، يعني كانت الغنيمة هنا تمراً، فأعطاه الأوزاعي، قال لهم. ها هو سيدنا قد
أعطى للسيدات أسهماً مثل الرجال. طبعاً الشافعي عندما جاء بعد ذلك - حيث وُلد الشافعي سنة مائة وخمسين، ونحن هنا نتحدث عن الأوزاعي الذي وُلد سنة ثمانية وثمانين - فقالوا: لا، نحن غير مقتنعين بهذا الكلام لأن هذا الحديث فيه ضعف. يعني ذهبوا وأدخلوا الموضوع من ولذلك لا بد أن نتحمل المخالف، لا بد علينا أن نتحمل الآخر، لا بد علينا أن نستمع بهدوء. القضية ليست قضية فسق ومحاولة بعد عن الشريعة وتغيير أحكام الله، لا، القضية فيها نوع من أنواع الفهم الراقي، وهذا يعلمنا أشياء كثيرة جداً. انظر إلى سفيان، انظر إلى مالك، انظر إلى يختلفون
معنا ولكن مع أبي حنيفة ومع الشافعي ومع مالك وكل شيء، ولكن بالرغم من ذلك إلا أنهم كانوا يحبون بعضهم بعضاً ويقدرون الخلاف في النظر ويعالجون الأمور بصورة فيها هدوء. وكان الأوزاعي يكره الجدل الذي لا يترتب عليه شيء، ويقول: "إذا أراد الله بقومٍ شراً فتح عليهم باب الجدل". الجدل وسد عنهم باب العمل، فدائماً كان الأوزاعي يُعِزُّ الأئمة الكبار، فيعظ أبا جعفر المنصور: "عليك بتقوى الله وتواضع يرفعك الله يوم يضع المتكبرين في الأرض". رضي الله تعالى عنه، كانت له مؤلفات كثيرة،
ومات الأوزاعي رضي الله تعالى عنه في سنة مائة وسبعة وخمسين، يعني كان الشافعي عنده سبع سنين فاللهم ألحقنا به على الإيمان وانفعنا بعلمه في الدارين آمين. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.