الإمام الشافعي | ج1| تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

الإمام الشافعي | ج1| تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة - تاريخ التشريع الإسلامي, شخصيات إسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ومع تاريخ التشريع من خلال تراجم الأئمة الأعلام المجتهدين، نعيش سوياً مع الإمام الشافعي، وهو محمد بن إدريس الشافعي القرشي المطلبي المكي. صاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي نزل مصر ودُفن بها فشرّفت به مصر، وهو قرشي وهو الوحيد من الأئمة الأربعة القرشي، ومن الأئمة
أصحاب المذاهب الكبرى هناك زيد وهناك جعفر الصادق وهناك الإمام الشافعي، وكلهم أيضاً من قريش. محمد بن إدريس الشافعي هو منسوب إلى جده لأنه ابن العباس. بن عثمان بن شافع وشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، ولذلك عدّه كثير من الناس من أهل البيت فيمن يوسع مفهوم أهل البيت حتى يشمل بني المطلب، لأنهم دخلوا مع بني هاشم في الشعب معاً. وولد الإمام سنة مائة. وخمسين في غزة، التي هي
جزء من فلسطين العزيزة، حررها الله سبحانه وتعالى. وكان له أيضاً علاقة بسيدنا علي بن أبي طالب، ولكن هذا يطول شرحه في الأنساب وما إلى ذلك. المهم أنه كان مكياً قرشياً. الإمام الذهبي يصف سيدنا الشافعي فيقول: "الإمام عالم العصر وناصر الحديث فقيه". الملة وناصر السنة، وصفه الإمام أحمد بن حنبل فقال: "ما مس أحد محبرة ولا قلماً إلا وللشافعي في عنقه منه". كل من ألّف في الشريعة الإسلامية
لا بد أنه قد استفاد من الشافعي. أبو نعيم يقول عنه: "الإمام الكامل، العامل العالم، ذو الشرف المنيف والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو..." الضياء في الظلام أوضح المشكلات وأفصح عن المعضلات، ينتشر علمه شرقاً وغرباً ويستفيض مذهبه براً وبحراً. هو المتبع للسنن والآثار، والمقتدي بما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، اقتبس عن الأئمة الأخيار فحدث عنه الأئمة الأحبار. هذا كلامه اللطيف المسموع في الإمام
الشافعي، والإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه هو مؤسس علم. أصول الفقه وهو أول من ألف فيه كتابه الرسالة، إذاً فهو مجدد القرن الثاني الهجري كما قال عنه أحمد بن حنبل. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يبعث ربنا على رأس كل مائة سنة من يجدد لأمتي أمر دينها"، لما وُلِدَ الإمام في سنة مائة وخمسين هجرية، وهي التي توفي فيها أبو حنيفة حتى قيل في بعض الروايات أنه وُلِدَ في اليوم الذي مات فيه أبو حنيفة، فقيل: وُلِدَ إمامٌ ومات إمام. وُلِدَ في غزة كما قلنا في حي اسمه حي
اليمن، وأيضاً في بعض الكتب يُقال حي عسقلان، وهذه الأحياء أظنها، يعني لا أعرف وجودها في غزة. الآن مات أبوه صغيراً فتربى يتيماً، لكن حملته أمه إلى مكة حتى لا يضيع نسبه، وكان عمره حينئذ سنتين، إذاً فهو يتيم وصغير، ولكنها ذهبت به إلى مكة مائة وخمسين، أي مائة واثنين وخمسين، يعني منتصف القرن الثاني، بعيداً عن أجواء الشام، بعيداً عن أجواء الحكم في العراق. إنما هو في مكة قرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، يعني أن هذه السيدة كانت سيدة عظيمة لأنها جعلته يحفظ القرآن، وكان ذكياً لديه قدرة
فحفظه وهو ابن سبع سنين، وأخذته ليتعلم الرمي والتصويب حتى فاق فيه الأقران، وكان يصيب من عشرة أسهم تسعة، من عشرة، أي تسعين في أي امتياز، ثم بعد ذلك ذهبت به ليتعلم اللغة العربية، فبرع فيها جداً. فأول شيء أنه - أي الذكاء الاصطناعي - بعد ذلك صحح عليه أشعار الهذليين. عندما تأتي لتقرأ أشعار الهذليين لا تفهم منها شيئاً، لكنه كان قد حفظها وكان قوياً في هذا المجال جداً. أما من ناحية دراسته فحفظ الموطأ للإمام مالك وهو ابن عشرة سنين، فلما
بلغ خمس عشرة سنة أُعجب به مالك عندما ذهب إليه في المدينة، وبعدها جلس هكذا من غير كتابة ومالك يتحدث، فكأن مالكاً غضب منه قليلاً، وكلما تكلم مالك بكلام يسأله فيجيب، فقال... قال له: "تعال، أنت لماذا لا تكتب؟" فقال له: "أنا حافظ كل ما قلته حضرتك." قال له: "كيف حفظته؟ كيف يعني؟" فسمّعه له، فقال له: "الله! وأنت حافظ الموطأ؟" قال له: "نعم، أنا حفظته منذ عشر سنوات." فكان الإمام مالك يخصّه، وكان الإمام الشافعي صاحب ذاكرة قوية جداً، فيقول عن... كنت أنا في الكُتّاب أسمع
المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها أنا نفسه. هي كانت طريقة في التعليم أخذوها منا بعد ذلك، اسمها "كامبريدج"، وهي "وان تو وان" يعني واحد لواحد، فكان المعلم يمسك بالطفل ويعلمه هو، فكان الشافعي يلتقطها ويحفظها. ولقد كان الصبيان يكتبون ما يُملى عليهم إلى أن يفرغوا. المعلم من الإملاء عليهم، بعد ذلك أكون أنا قد حفظت جميع ما أملي. فقال لي المعلم ذات يوم: "ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً، يعني أنا لا أعلمك هكذا، أنت تعلم نفسك". فكان الإمام الشافعي آية من الآيات، ولكنه بالرغم من ذلك لم يعتمد على عقله ولا ذكائه. إنما اعتمد على تحصيل
العلم الصحيح بالاتساع، فذهب يدرس العربية، وذهب يتعلم الرمي أيضاً، وكذلك ذهب يدرس الشرع الشريف، درس الفقه. وكان هناك رجل اسمه خالد الزنجي، وكان خالد الزنجي هذا أستاذه في مكة. وكانوا يسمونه زنجياً لأنه كان شديد الشقرة، أي كانوا يسمونه بعكس ما هو عليه. شديد الشقرة فيسمونه زنجي، خالد الزنجي. الإمام الشافعي تزوج بالسيدة حميدة بنت نافع بن عبسة، وهذا عبسة هو ابن عمرو بن عثمان بن عفان، فهي من نسل سيدنا عثمان بن عفان. وأنجب منها ولده الأكبر قاضي حلب محمد بن محمد بن إدريس الشافعي. قلنا
إنه حفظ أشعار هُذيل الحقيقية. أنه لزم قبيلة هذيل في البادية ليتعلم كلامها ويأخذ طبعها حتى صارت العربية له سجية، وكانت هذيل أفصح العرب. بقي فيهم سبع عشرة سنة يمشي معهم، يرحل برحيلهم وينزل بنزولهم ويحفظ أشعارهم. فعاش الأجواء العربية الصحيحة، ولذلك كان أقدر الناس على فهم كتاب الله وعلى فهم سنة سيدنا رسول الله. صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك بعد أن تمكن من الأدوات عاد الشافعي إلى مكة وأخذ ينشد الأشعار ويذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فمر به رجل من بني عثمان من الزبيريين فقال: "يا أبا عبد الله، يعز
علي ألا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة وهذا الذكاء فقه فتكون قد..." سِدْتَ أهل زمانك، فتأثر الشافعي بهذا الكلام جداً وتوجه فقرأ على سفيان بن عيينة، ثم جالس خالد الزنجي. هذا كان اسمه مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة، والذي أخذ العلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وابن الزبير عن جماعة من الصحابة. أخذ الفقه عن مسلم بن خالد. حتى حصل على إجازة بالإفتاء وهو ابن عشرين سنة. ويقول الشافعي في ذلك: "أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغتها، وحفظت القرآن فما علمت أنه مر بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه والمراد". هؤلاء
هم الناس المجتهدون الذين بذلوا الجهد وبذلوا الوقت وتقشفوا في طلب الدنيا، حينئذٍ مع الذكاء الوافر أن يكونوا في هذا المقام، ولذلك كان الشافعي يقول: "ذكاءٌ أخي لن تنال العلم إلا بستة، سأنبئك عن تأويلها ببيان: ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبلغةٌ وإرشاد أستاذٍ وطول زمان". قرأ الموطأ على الإمام مالك وأجازه به، وكان الشافعي يحب مالكاً جداً، وكان يقول: "إذا ذُكر العلماء فمالكٌ النجم". وما أحدٌ أمَنَّ عليَّ من مالكِ بنِ أنس. مالكٌ معلمي وعنه أخذتُ العلم. انبهر بمالك، هو أتاه صغيراً
فانبهر به لأن مالكاً كان إماماً كبيراً كما ذكرنا في حلقةٍ ماضية. الشافعي لم يقتصر على علمِ مكة وعلمِ المدينة، بل إنه أيضاً رحل في طلب العلم، فرحل إلى اليمن مرةً. رأى... قال له أحدهم: "من أين أنت؟" فأجاب: "أنا والي اليمن". فقال له: "حسناً، أرجوك خذني معك". فذهب مع واليها الذي قابله في مكة وطلب منه أن يرافقه في هذه الرحلة. أُعجب الوالي بالإمام الشافعي فعينه والياً على أهل نجران، وحكم الشافعي بينهم بالعدل والمساواة، ووجد معارضة من...
بعض شرار الناس وهذا موجود في كل مكان أن الرجل الصالح الطيب العالم لابد أن يظهر له أشرار، ففي هذه الحالة وَشَوا به إلى هارون الرشيد الخليفة هناك في بغداد، قالوا إن الشافعي يريد الخلافة وهو قرشي مستعد لهذا، فأرسل الرشيد في استدعائه، وكان هذا سنة مائة وأربعة وثمانين، يعني وثلاثين سنة حتى حضر يناديه الخليفة في بغداد، أي إنه عندما ذهب إلى اليمن ذهب بإرادته، والتقى هناك مع علماء كثيرين، ثم بعد ذلك سافر إلى بغداد بطلب من الخليفة حتى يراه. فأحسن الدفاع عن نفسه بلسان عربي مبين وبحجة قوية حتى أُعجب به الرشيد وأطلق سراحه. بقي
الإمام الشافعي... في بغداد التقى بالإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة كما ذكرنا في حلقة أبي حنيفة، استفاد منه كثيراً وكان يحبه كثيراً، وكان يقول عنه: "ما رأيت سميناً أظرف من محمد بن الحسن". كان محمد بن الحسن بديناً جداً، فكان الشافعي يرى ظرفه وبقي ضيفاً عند محمد. ابن الحسن نحو سنتين ثم عاد بعدها إلى مكة وبعد ذلك رجع مرة أخرى في رحلة أخرى إلى بغداد سنة مائة خمسة وتسعين وفي بغداد ألف كتابه الكبير الحجة كتاب الحجة
الذي ألفه في بغداد يرويه عنه تلاميذه الذين كانوا في هذا الوقت أبو ثور والكرابيسي والبقال وأبو عبد الرحمن الشافعي والزعفراني وأملى عليهم كتاب الحج. هذا الإمام الشافعي نوَّر مصر بعد ذلك، ولذلك نريد أن نخصص لها حلقة مستقلة. فإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.